تخبطات رابطة علماء المغرب العربي حول تأنيث مهنة العدول

بقلم: عبدالله الجباري

سمحت قوانين المملكة المغربية منذ أعوام خلت بإدماج النساء في مهنة الشهادة العدلية، وأثير نقاش حينها على مواقع التواصل الاجتماعي، ونجحت مجموعة من النسوة في ولوج هذه المهنة وصرن ممارسات، والآن، طفا على السطح نفس النقاش بنفس الكلام المكرور، وتزعم النقاش أتباع التيار السلفي النجدي/المغربي، وللاستقواء على الدولة المغربية حاولوا استصدار فتوى من “رابطة علماء المغرب العربي” بعد ما أعياهم استصدار فتوى من المجلس العلمي الأعلى بالمغرب، حيث أكثروا من مطالبته بالإفتاء في هذه النازلة عبر تغريداتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، فما مدى علمية فتوى علماء المغرب العربي؟ وما هي ملاحظاتنا الشكلية حولها؟

أولا: الملاحظات الشكلية.

— ورد في ديباجة الفتوى أن سؤالا ورد على الرابطة في الموضوع، وأحالته على (اللجنة الشرعية) للبت فيه، وفي خاتمة الفتوى وجدنا توقيع (اللجنة العلمية)، ولا ندري سبب هذا الارتباك والاضطراب، فهل توجد عند الرابطة (لجنة علمية) أو (لجنة شرعية) أو مجرد تسميات للاستقواء على الغير ليس إلا؟

— سواء كانت الفتوى صادرة عن لجنة علمية أو لجنة شرعية، فإنه من اللازم ذكر أعضاء هذه اللجنة، وقديما قيل: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم. فمن هم أعضاء اللجنة الذين تداولوا وناقشوا ورجحوا وأفتوا؟ هل نأخذ الفتوى عن النكرات؟

— بعد هذه الملاحظات، خصوصا جهالة أعضاء اللجنة العلمية/الشرعية، فإننا لا نعرف عدالة القوم من عدمها، لذا نتوقف بريب شديد أمام دعوى سؤالٍ وردهم حول الموضوع، ولعله سؤال مختلق لاستصدار فتوى مجهولة المصدر للاستقواء على الدولة المغربية في شأنها.

— مما يزيد الريب ريبا، أن الفتوى ليست إلا تجميعا لتغريدات رئيس الرابطة حسن الكتاني، وهي تغريدات غير علمية وغير دقيقة، لم يكتبها صاحبها إلا لتعبئة الأتباع وليس لتوعيتهم والرقي بهم علميا، ولو كانت الرابطة تبتغي مقاربة الموضوع علميا لنظمت ندوة علمية غير تعبوية، تستدعي لها علماء وباحثين من توجهات مختلفة، بهدف خلق رأي عام واعي ومسؤول.

ثانيا: الملاحظات العلمية.

لا تكتسب الفتوى قوتها من الجهة المصدرة لها، بل تكتسبها من ذاتها وما بنيت عليه من أدلة، لذا وجب أن نفكك أدلة اللجنة العلمية/الشرعية في هذه الورقة.

— صدرت اللجنة العلمية/الشرعية فتواها بعبارة: “إن عقد الزواج وإبرامه مما يختص به الرجل دون المرأة”، وهذه خلاصة الفتوى لا يمكن الخلوص إليها إلا بعد ترسانة من الاستدلالات، أما تصدير الفتوى بالحكم النهائي فلا يراد منه إلا الضغط على القارئ والتأثير عليه ذهنيا.

— ذكرت الفتوى أن العبرة في الزواج هو الولي والشاهدان والإيجاب والقبول.

وهنا لخبطة غير دقيقة، خصوصا أنها وردت بصيغة الحصر، لأن الزواج لا يعد شرعيا بما ذُكر فقط، بل لا بد فيه من المهر، وهو أهم من بعض المذكورات، ولعل أهم من ورط اللجنة في هذا الكلام هو حسن الكتاني، وقد بينا في أكثر من مناسبة أنه ضعيف في الفقه وفي غيره من العلوم الشرعية، وقد كتب على حائطه الفايسبوكي يوم أمس تغريدة مطولة بعنوان: شروط النكاح ومسألة الولاية وشهادة المرأة. ذكر فيه أن أركان الزواج ثلاثة: * الزوجان * الإيجاب * القبول.

وعند التحقيق فإن الأركان الثلاثة ليست سوى ركنين اثنين، لأن الإيجاب والقبول يُجمعان معا في ركن واحد يسمى الصيغة، وأقصى المهر من الركنية، كما أقصى الولي، وهو المنصوص عليه في المذهب.

نعم، قد يكون موافقا لمدونة الأسرة في عدم ركنية الولي، لكن مدونة الأسرة تنص بتشدد على المهر وتعده من الأركان.

من هنا، نجد أن مدونة الأسرة أحرص على دين المغاربة من شيوخ المغرب العربي وشيوخ اللجنة العلمية وشيوخ اللجنة الشرعية وهلم جرا من شيوخ كذا وكذا.

— نصت فتوى الشيوخ النكرات أن مجرد حضور المرأة في شهادة النكاح تصيره زواجا باطلا، وبيّن هؤلاء الشيوخ النكرات أن بطلانه راجع لكونه زواج عقدته امرأة، واستدلوا لذلك بحديث: “لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها”، وذكروا أنه مروي في سنن ابن ماجه.

ولنا على هذا الاستدلال ملاحظات:

أولها: الحديث ليس نصا في الشهود، بل في التزويج، ومعنى أن تزوج المرأة نفسها، أي أن تكون ولية نفسها. ومعنى أن تزوج المرأة المرأة، أي أن تكون المرأة ولية لنظيرتها المرأة في الزواج.

ثانيا: حين كان العلماء علماء نعرفهم بعلمهم وأعيانهم ومشيختهم، كانوا يستعملون هذا اللفظ النبوي في سياقات الولاية، وليس في سياقات الإشهاد، لذلك قال مولانا ابن حجر العسقلاني: “وقد اختلف العلماء في اشتراط الولي في النكاح فذهب الجمهور إلى ذلك وقالوا ‌لا ‌تزوج ‌المرأة نفسها أصلا واحتجوا بالأحاديث المذكورة”، فتراه يستعمل نفس عبارة الحديث: “لا تزوج المرأة نفسها”، ولكن في سياق الولاية وليس في سياق الإشهاد.

ونظير ذلك قول ابن تيمية وهو عمدة هؤلاء النكرات أعضاء اللجنتين العلمية والشرعية، فإنه قال بعد كلام عن الإشهاد: “وهذا بخلاف “الولي” فإنه قد دل عليه القرآن في غير موضع والسنة في غير موضع وهو عادة الصحابة إنما كان يزوج النساءَ الرجال، لا يعرف أن امرأة تزوج نفسها. وهذا مما يفرق فيه بين النكاح ومتخذات أخدان ولهذا قالت عائشة: ‌لا ‌تزوج ‌المرأة ‌نفسها؛ فإن البغي هي التي تزوج نفسها”. ووجه دقة ابن تيمية ورعونة اللجنة العلمية أن ابن تيمية لم يستعمل عبارة “تزوج المرأة نفسها” أثناء الحديث عن الشهود، بل أثناء الحديث عن الولي.

وإذا تجاوزنا هؤلاء العلماء الحقيقيين، ورجعنا إلى سنن ابن ماجه نفسه، فإننا نجد الحديث المستدل به مرويا في “باب لا نكاح إلا بولي”، فلماذا رواه ابن ماجه في هذا الباب ولم يروه في الأبواب ذات الصلة بالشهادة وإعلان النكاح؟

بناء على هذه الاعتبارات، فإنني أرى أن الإخوة المجهولين أعضاء اللجنة المجهولة في رابطة علماء المغرب العربي لا يتقنون الاستدلال، ولا يرتبطون بمتون العلماء ومصنفاتهم، ولا يفهمون أحاديث النبي العظيم صلى الله عليه وسلم، ولو كانت عندنا مؤسسة الحسبة لما ترددت في لجمهم ومنعهم من الإفتاء لما في فتاواهم من نشر الجهل وشرعنة الجهل.

— للضغط على ذهنية القارئ، أورد هؤلاء المجاهيل في فتواهم قول الإمام ابن عبد البر: “ولما لم تلِ عقد نكاح غيرها، لم تل عقد نكاح نفسها”. ولنا على هذا الاستدلال أو الإيراد ملاحظات:

أولها: كلام ابن عبد البر أورده في شرح بلاغ مالك: “أن عمر بن الخطاب قال: لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها أو ذي الرأي من أهلها أو السلطان”. ومنه يتبين أن الموضوع هو الولي وليس الإشهاد.

وتوسع ابن عبد البر كعادته في إيراد الأقوال ذات الصلة بالموضوع، ولم يتحدث طيلة تلك الصفحات عن الإشهاد البتة، وإنما كان حديثه مقتصرا على الولاية فقط، وذكر أقوال الحنفية الذين لا يقولون بالولي، ورد عليهم بقوله: “ومن الحجة على الكوفيين في جواز إنكاح المرأة نفسها ما رواه هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لا تنكح المرأة المرأة، ولا تنكح المرأة نفسها، فإن الزانية التي تنكح نفسها”، ولم تلِ عقدة نكاح غيرها كما لم تل عقدة نكاح نفسها، ألا ترى إلى حديث القاسم عن عائشة أنها كانت إذا خطب إليها بعض قرابتها وبلغت التزويج تقول للولي: زوِّج، فإن النساء لا يعقدن النكاح”.

هذا كلام ابن عبد البر الذي اقتنصوا منه ما أرادوا، وهو ليس في موضوعهم، ولا علاقة له بجهالاتهم، فإن كلامه في الولي، كما أن كلام عائشة الذي ختم به صريح في الولي ولا علاقة له بالإشهاد.

— استدل جهلة الفتوى في رابطة المغرب العربي بقول أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها، وقد بينا قبلُ أنه لا صلة له بالإشهاد، وإن موضوعه هو الولاية، فيُنتقد استدلالهم بما قلناه أعلاه.

— ختم المجهولون فتواهم بقول الإمام مالك الوارد في مواضع من المدونة فحواه أنه لا تجوز شهادة المرأة في الحدود والقصاص والنكاح والطلاق.

وهذه تقنية مهمة عندهم لاستغلال إمام المذهب ورمزيته خاصة في المغرب، أو لإحراج الدولة وأجهزتها، وهذا من الطفولة العلمية، وتعليقنا عليه كالآتي:

أ ــ قول الإمام مالك وقول غيره سواء في عدم الحجية، ولا يمكن أن نعمد إلى القول ببطلان زواج؛ وهو حكم خطير؛ اعتمادا على قول رجل ذي كاريزما، فهذا لا علاقة له بالفقه، ولا علاقة له بالعلم. وهل نجد في أصول الفقه (وهو منطق الفقه) أن قول فلان ما حجة يُستدل بها؟.

ب ــ لم توضح لنا المدونة دليل الإمام مالك، ولو بينته لاقتنعنا به أو لناقشناه ورددناه، أما القول العري عن الدليل فلا يمكن أن نعتمده في قضايا الدولة وتدبير أمور الدولة.

ج ــ قد يكون قول الإمام مالك مقبولا في عصره ومصره باعتباره أحد ممارسي التشريع في عصره، وهذا لا يعني أن كلامه مقبول في كل عصر ومصر، وكثير من أقواله وأقوال غيره لا نعمل بها، فلا داعي لتجييش الفتوى بالأقوال.

— ختمت الفتوى بقول موقعيها المجاهيل: “وعليه، لا يجوز للمرأة أن تعقد الزواج ولا أن تلي هذه المهمة وتتصدى لهذه المهنة، فهذا مما يخالف الشريعة الإسلامية، ويوقع الناس في الحرج بإبطال عقود زواجهم”.

وهكذا نجد الحكم بالإبطال، ونسبة ذلك إلى الدين، وصدوره عن المجاهيل، فمن هؤلاء القائلون بالإبطال؟

أما دعوى مخالفة الشريعة فهراء، ولو قلنا بأن فتوى هؤلاء الجهلة المجاهيل هي المخالفة للشريعة الإسلامية لما قلنا باطلا.

بناء على ما سبق، فإن امتهان المرأة لمهمة العدول وانتصابها للإشهاد لا حرج فيه البتة، ولا يخالف الشريعة الإسلامية، ولا يعد النكاح بإشهادهن باطلا. ومن قال بعكس هذا فعليه بالدليل.

هذا، وإن هذه الرابطة وجراءة أصحابها على الإفتاء لهي أمارة من أمارات النبوة ودلائلها، ولو لم تتصدر للإفتاء هي ومثيلاتها من الهيآت لما كان لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم معنى، وهو القائل: ” إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس ‌رؤوسا ‌جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا”. فهؤلاء المفتون المجاهيل هم الرؤوس الجهال الذين يفتون بغير علم، فيضلون أنفسهم ويضلون غيرهم، ويصبغون ضلالهم وإضلالهم بصبغة الدين. ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.

اترك رد