علي شريعتي: بين الغياب في إيران والحضور في الوطن العربي

بقلم: نور الدين حاتمي

هل ما زالت الحاجة إلى علي شريعتي “العودة إلى الذات” و”النباهة والاستحمار” والتشيع الصفوي والتشيع العلوي” و”الأمة والإمامة” قائمة؟ هل ما زالت الإنتاجات الفكرية والإيديولوجية لهذا المفكر العظيم صالحة لنا؟ وهل صحيح أن تجاوز هذا المفكر في بلده الأصلي: إيران يقتضي ـ وبالضرورة ـ تجاوزه في الوطن العربي؟ ولماذا تجاوزته الثقافة والفكر الإيرانيين وبقي صامدا وقويا في الثقافة والفكر العربيين والإسلاميين؟ وما هي الشروط الواجب توفرها لتجاوزه؟
يجد هذا الموضوع مبرره في الدراسة التي كتبها المفكر العراقي “عبد الجبار الرفاعي” عن الشهيد “علي شريعتي” ونشرها في كتابه الهام “الدين والظمأ الأنطولوجي” الذي تناول فيه ضرورة “تحرير” الدين من سارقيه ومغتصبيه من رموز و اعلام النضالية والاحتجاجية “الإسلامية” من اجل أن يستعيد قدرته على إرواء “الظمأ الأنطولوجي”، هذا الإرواء الذي يُعد الوظيفة الأساسية و الرئيسية له.
و إذا كان “عبد الجبار الرفاعي” قد نبه إلى أن “علي شريعتي” ليس متخصصا في فيما نسب نفسه إليه: أي علم الاجتماع الديني، الذي طالما نوه به، و أشار إليه في عدد من كتاباته، لأنه لا شيء يثبت أنه ـ كما يقول عن نفسه ـ قد درس هذا الفرع من العلوم الإنسانية في السوربون، فإن هذا الأمر لا يقدح فيه و لا يطعن، لأن الكتب و الانتاجات التي خلفها تنتمي إلى هذا الفرع من تلك العلوم، و تندرج تحت عنوانه، بل إنها تقع في صلبه، و الاحترافية التي كان يصيغ بها محاضراته و كتاباته، تؤكد أنه كان دارسا جيدا و باحثا متعمقا في هذا “العلم”. و الشهادات ليست محددا في هذا الشأن، و الانتساب إلى الكليات و الجامعات ليس ضروريا ليقول مفكر عن نفسه أنه متخصص في فرع ما من فروع المعرفة، أو مجال من مجالاتها
و إذا كان قد قال عنه ـ أيضا ـ أن اطلاعه على المدارس الفكرية الغربية التي كان يستعين بها في القيام بوظيفته في نقد الواقع و الوقائع و تعريتهما، و النهوض بواجبه في التعبئة و نشر الوعي الثوري، ليس عميقا و لا يرقى إلى ما هو مطلوب تماما كما هو مستوى معرفته بالإسلام و فلسفته كدين، فإن هذا الموقف ليس موقفا تاريخيا، و هذه القراءة ليست قراءة موضوعية، لأن “الرفاعي” يقرأ “شريعتي” الذي استشهد على يد “السافاك” في نهاية سبعينيات القرن الماضي بعين القرن الحالي، و لا يضعه في سياقه التاريخي حتى تكون المعرفة به أيضا تاريخية . لم يكن “شريعتي” معنيا بالوقوف على “البنية العميقة” للفكر الغربي و لم يكن يقرأه قراءة المفكر الذي يتعالى بالفكر، و إنما يقرأه قراءة و ظيفية تسعفه في مشروعه “الرسالي” و ما كان يقوم به المرحوم “شريعتي” المثقف “الرسولي” يقوم به أي مثقف يتصف بصفته و يؤمن برسالته.
إن كل هذا الاستطراد ليس مهما هنا، المهم في هذه الورقة هو أن “عبد الجبار الرفاعي” ذهب في كتابه المذكور اعلاه إلى أن الشهيد “علي شريعتي” الذي ربينا على كتاباته “الثورية” و الرائعة في وقتها، و التي أسهمت ـ كما أسهمت كتب غيرها طبعا ـ في تأطير الجيل الإسلامي، الذي آمن بأن الحل لتجاوز التخلف و الانحطاط الذين تغرق فيهما الأمة، و الخروج منهما لا يكون إلا بالإسلام، و بالإسلام فقط، و بتصور إسلامي نضالي قوي و متين، و مسلح بالوعي بالتاريخ و العصر، ساهم هو في بنائه و تشييد صرحه، بالاستعانة بمختلف فروع العلوم الإنسانية و المفاهيم النظرية و الفلسفية التي كان يستقيها من المدارس الفكرية الغربية، و يحسن توظيفها و الاستثمار فيها، اقول: إن “الرفاعي” ذهب في كتابه ذاك إلى أن هذا “الفيلسوف” قد تم تجاوزه في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، و قد أصبح جزءا من الماضي و ذلك بعد أن قٌتل بحثا و دراسة، في حين أنه لا يزال حيا و حاضرا، و بقوة في الوطن العربي و أن إنتاجاته التي غابت عن الساحة الثقافية الإيرانية لا تزال موجودة، و بكثرة، في الأسواق الثقافية العربية كما يقول هو. ليثور السؤال هنا حول الأسباب التي تبقي “شريعتي” حيا و حاضرا في الوطن العربي في حين أنه أصبح متجاوزا في بلده الأصلي: إيران كما يقول الرفاعي؟ بالنسبة “للرفاعي” فإن حضور “شريعتي” في الوطن العربي يعود بالدرجة الأولى، إلى ان هذه الشعوب تستهويها الكتب التحريضية و التعبوية و التي تدغدغ مشاعرها و تحرك سواكن أفرادها و عناصرها. و إذا كانت هذا الموقف لا غبار عليه و هو إيجابي فيما يتعلق بالعرب، فإن “الرفاعي” يصيغه بطريقة تجعله في مقام الذم و السلب.
طبيعي جدا أن يتم تجاوز “علي شريعتي” في بلاده: إيران، فالثورة التي ناضل في سبيلها قد “تحققت” ، و التغيير الذي انخرط في التأسيس له و الإسهام فيه قد تحقق أيضا، و الجمهورية الإيرانية قد “استعادت” جذورها “الإسلامية” و عادت إلى ذاتها كما كان يدعو، و بالتالي، فإن مبررات حضوره لم تعد قائمة، و الناس لم يعودوا في حاجة إلى استدعاء نصوصه و كتاباته. إن تجاوز “علي شريعتي” في إيران، يجد تفسيره في كون هذه البلاد قد حققت ما كان يدعو إليه و ينظر له، و ليس في شيء آخر، كما يجد تفسيره في المصير الذي انتهت إليه تلك الثورة، حيث انتهت إلى النقيض مما كان الشعب الإيراني و النخبة “الإسلامية” ـ و “علي شريعتي” من أبرز أعلامها و دعاتها ـ يحلمان به و يتوقان إليه.
إذا كان تحول شريعتي إلى التاريخ ،إلى الماضي، و افتقاده القدرة على التـأثير في الثقافة و الفكر في إيران كان بسبب أن هذه الأخيرة حققت مشروعها الذي شارك هو في العمل له بالتنظير و التحريض و الدعوة، فلماذا يتم تجاوزه في الوطن العربي؟
لم يستطع العرب تحقيق مشروعهم النهضوي “الثوري” أو “الإصلاحي” و لم يتمكنوا من الخروج من التخلف و الالتحاق بالأمم المتقدمة كما كانوا يطمحون، و لهذا السبب بالذات سيظل “علي شريعتي” حاضرا و بقوة في البلاد العربية، و حيا عند مثقفيه “الرساليين”. لقد كان “شريعتي” داعية لا يتوقف عن المناداة “بالعودة إلى الذات” الذات الإسلامية، حتى أنه كتب في ذات الموضوع كتابا عظيما يحمل العنوان نفسه، فهل تأتى للعرب و المسلمين ان يعودوا إلى ذاتهم؟. إن العودة هنا إلى تلك الذات، وحدها يمكن أن تجعل هذه الدعوة متجاوزة، و طالما أن العرب لا يعودون إليها، فإن تلك الدعوة ستظل قائمة في المدى المنظور على الأقل. إن شعار “العودة إلى الذات” شعار سيظل باقيا طالما أن العرب عاجزون عن إيجاد إيديولوجيا بديلة عن الإسلام، و في مقدورها أن تلعب دورا في التعبئة و التحريض. لقد أثبت التاريخ أن الإسلام وحده يمكن أن يحرك هذه الشعوب و أن يدفعها إلى الكفاح و العمل من أجل الوحدة و من أجل النهوض، و إذا كانت الحركات “الإسلامية” قد أوصلت الشعار الإسلامي إلى النفق المسدود، فإن هذا الأخير لا يزال قدارا على التأثير و لم يفقد زخمه و قوته بعد، و أنه يحتاج فقط إلى أن يعطى مضمونا جديدا يجعله أكثر معاصرة و أكثر “أنسنة” ، و إذا كانت الحاجة إلى دعوة “شريعتي” إلى العودة إلى الذات مبررة و ضرورية، فإن ثمة أمرا آخر يجعل حضوره ليس معقولا فحسب، بل يجعله ضروريا، يتعلق الأمر هنا “بالصراع” الذي تنفخ السياسة في ناره بين السنة و الشيعة. إن الطرح الثوري و المتين الذي اصل له المرحوم كفيل بالحد من آثاره و خفض مخاطره، و ذلك بتجاوز “التسنن الأموي” و “التشيع الصفوي” كليهما، و العودة بالمقابل، إلى “التشيع العلوي” و “التسنن المحمدي”. إن هذه الرؤية التي تحدث عنها هذا المفكر في كتابه “التشيع الصفوي و التشيع العلوي” هي رؤية ثورية بحق، و جديرة بالتوقف عندها وإعطائها ما تستحق من الاهتمام، فربما يكون لها ما بعدها في قطع الطريق على الذين يديرون مصالحهم من خلال العبث بها.
ثم إن” شريعتي” لا يستمد مبرر وجوده وحضوره في الوطن العر بي من هذين الأمرين فقط، و لكنه يستمده أيضا ، من كون النقد الذي مارسه على “المثقفين” والسياسيين و”رجال الدين” وعلى “السلفيين” و”العصريين” لا يزال صالحا إلى اليوم، فالذين يقرؤون له اليوم يشعرون أنه يتكلم بالنيابة عنهم و أنه كان يكتب لهم ولصالحهم وإن كتاباته ـ جلها على الأقل ـ بمكنتها و بمقدورها أن تساعد اليوم ـ كما كانت بالأمس ـ في تعرية الواقع و تثوير الوعي.
سيظل علي شريعتي حاضرا في وعي المثقفين المسكونين بهاجس التغيير ما دام العرب لم يحققوا مشروعهم و ما داموا عاجزين عن إيجاد خطاب بديل عن الخطاب الإيديولوجي السائد. و تجاوزه ـ هو وباقي الأسماء التي على شاكلته ـ مرهون بتحقيق هذا المشروع، و تحقيق تطلعات الشعوب.

اترك رد