الحقيقة الموءودة في زمن اللامسؤولية: من قتلها؟ ومن تواطأ على دفنها؟

بقلم: سعيد عاتيق

في زمنٍ باتت فيه الحقيقة ترفًا، والكرامة شبهة، والعدل أمنية عابرة، يبدو أن البحث عن الحقيقة ليس فقط مهمة مستحيلة، بل هو نوع من الجنون الطوعي. فما جدوى أن تبحث عن حقيقةٍ أنت موضوعها، بل أنت حطبها؟ وما معنى أن تدافع عن قيم لم يعد لها حاضنة في زمن تتهاوى فيه المعايير وتُجهض فيه الإرادات؟

قد يبدو هذا الكلام سوداويًا، لكنه واقع يفرض نفسه بمرارة على الحياة العامة ، حيث أصبحت السياسة مسرحًا للعبث، والاقتصاد ساحةً لتكريس التفاوت، والمجتمع سجينًا لحالة من التيه، لم تنجح فيها السياسات العمومية في بسط طريق نحو نمو حقيقي أو عدالة اجتماعية مرجوة منذ زمان .
محاولات الإصلاح، إن وُجدت، لم تتجاوز في جوهرها مستوى “الروتوشات”، بينما ظلت اختلالات البنية راسخة، تنخر مفاصل الحياة والمجتمع على حد سواء.

في هذا المشهد المقلوب، تحوّلت المسؤولية إلى “مزاج”، وأضحى المواطن مجرد “سلعة انتخابية”، يُستدعى كل خمس سنوات لتزكية من يتحكم بمصيره، ثم يُنسى بعد ذلك كأن لم يكن.
وزارة العدل – كمثال فاقع – ساعية و جاهدة في تمرير ترسانة من القوانين تناقض بوضوح روح الدستور، رغم رفضها من قبل المجتمع المدني وبعض المؤسسات الدستورية.
أما-بعض من- المعارضة، التي كان يفترض أن تكون صوتًا للناس، فقد تحوّلت إلى وسيلة لاقتناص المناصب، تلوّح بإسقاط الحكومة ثم تنسحب في هدوء، كأن شيئًا لم يكن.

أين الحقيقة؟ ومن دفنها؟

لعل أكثر ما يوجع ليس فساد النخب، بل تواطؤ الشعب.
نعم، نحن – كناخبين – من زكّينا الحزب الأول في الحكومة، ومنحناه 80% من المقاعد في الانتخابات الجزئية الأخيرة .
نحن من فوّتنا فرصة المعاقبة عبر صناديق الاقتراع، ونحن من نمنح المشروعية، ثم نشكو من الفشل.
إنها مفارقة جارحة: نصرخ ليلًا في المقاهي ووسائل التواصل، ونصفّق صباحًا في مكاتب التصويت.

لسنا ضحايا فقط، نحن مشاركون. ولسنا فقط مقهورين، نحن – في جزء منا – صانعو هذا القهر، بالتخاذل أو بالصمت أو بالتواطؤ.

إن الحقيقة التي نبحث عنها لن تسقط من السماء، ولن تأتي بها حكومة أو حزب.
هي وعي يتشكّل، ومسؤولية تُمارَس، وإرادة تُفرض.
وما لم نمارس دورنا الكامل كمواطنين، ونكفّ عن الهروب نحو الشعارات والمظلومية، ستظل الحقيقة مدفونة تحت ركام الإحباط والتواطؤ الجماعي.

اترك رد