فيسبوك قتلني
بقلم: نبيل بكاني
في عام 2020، وبينما كان العالم يرزح تحت وطأة وباء عالمي قلب حياة الناس رأسًا على عقب، وجدتُ نفسي أواجه صدمة شخصية أغرب من الخيال. لم تكن الإصابة بكوفيد-19 هي ما أرعبني، بل إعلان وفاتي على فيسبوك، وأنا حيّ أتنفس وأمارس حياتي.
أنا نبيل بكاني، صحافي ومواطن مغربي، تفاجأت ذات يوم بإشعار رسمي على حسابي في فيسبوك يُعلن وفاتي بسبب فيروس كورونا، مع منعي من الولوج إلى لوحة التحكم الخاصة بحسابي. الغريب أن الحساب لم يُعلَّق أو يُوقَف، بل ظل ظاهرًا للعموم، وكأنه يخص شخصًا متوفًى بالفعل، ما زاد من الالتباس، وأضفى على الإشعار طابعًا من المصداقية الزائفة، وكأنه ختم نهائي على حياتي الرقمية.
لم يكن الأمر منشورًا عابرًا من أحد الأصدقاء، بل بدا يقينا صادرا عن نظام “ميتا” نفسه، مما أضفى عليه طابعًا رسميًا ومخيفًا.
عندما يتحول فيسبوك من منصة للترفيه وبناء العلاقات وتبسيط الحياة، إلى قاتل يعلن موتك الافتراضي وينهي حياتك ووجودك ويعلن ذلك للعالم، دون وجه حق، فاعلم أنك لم تعد مستخدمًا بل ضحية.
كان ذلك أكثر من مجرد خلل تقني. لقد مسّ هذا الإعلان الكاذب جوهر هويتي ووجودي، وترك أثرًا عميقًا على حياتي الاجتماعية والمهنية. تلقيت اتصالات منهارة من العائلة، وانهالت عليّ رسائل الحزن من أصدقاء لم يتأكدوا بعد من الحقيقة. أما أنا، فشعرت وكأنني اختُطفت من عالمي، ومُسحت من الذاكرة الرقمية لمجتمعي.
لكن الأسوأ من الإعلان نفسه، هو ردود الفعل – أو بالأحرى، غيابها.
رغم أنني قمت بخطوات قانونية واضحة، من تقديم شكايتين إلى القضاء المغربي (في 2020 و2023)، والاستماع إليّ من طرف الشرطة القضائية، لم يتحرك الملف من موضعه، ولم يتم أي إجراء ملموس، ما عدارسالة من النيابة العامة عام 2023 تُخبرني بالحفظ المؤقت للشكوى إلى حين التوصل بخبرة الشرطة، وأعتقد أن المقصود هو “الشرطة التقنية”. شعرت أن الصمت القانوني لا يقلّ إيلامًا عن الخطأ نفسه. أما “المجلس الوطني لحقوق الإنسان”، فلم يُكلف نفسه حتى عناء الرد على تظلمي، وكأنه لا يعترف بشيء اسمه “الحقوق الرقمية” أو “الجريمة الإلكترونية” أو “حماية الحياة الشخصية”، أو ما يُعرف بـ”الأمن الرقمي“.
لم أستسلم. بعثت رسائل إلى وزارة العدل الأميركية، والمدعي العام لولاية كاليفورنيا، وكتبت إلى الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وراسلت كبرى الصحف الأميركية. لم يرد أحد. وكأن قضيتي، ومعاناتي، لا تستحق النظر لأنها ببساطة تأتي من “العالم الثالث“.
ومع أنني أرسلت أكثر من ثلاثين شكوى إلى شركة ميتا، لا يزال الإشعار الكاذب قائمًا إلى اليوم. كل يوم يمر دون حذفه هو طعنة أخرى في سمعتي واستقراري النفسي.
لقد تضرر جانب من حياتي الشخصية والمهنية بشكل مباشر. فقد تأثرت علاقاتي الاجتماعية، وتعرضت لارتباك نفسي حاد، وساد نوع من الغموض المحرج في محيطي العملي. ومع ذلك، ورغم مناشداتي المتكررة، لم أتلقَّ أي رد من شركة فيسبوك. ويبدو أن السبب ببساطة هو أنني لا أنتمي إلى الجغرافيا “المعتبرة” في سياسات هذه المنصات. فكوني صحافيًا ومواطنًا من دولة في جنوب العالم، لم يكن كافيًا لاستحقاق الرد، ناهيك عن الإنصاف.
إن ما تعرضت له لا ينبغي أن يُنظر إليه كحادثة معزولة أو خطأ تقني عابر، بل هو مؤشر صارخ على هشاشة البنية الرقمية التي تتحكم في حضورنا وهويتنا في الفضاء الافتراضي. من غير المقبول أن يبقى إشعار وفاة كاذب معروضًا على حساب شخص حي، في ظل تجاهل تام من الشركة المالكة، وصمت قانوني محلي ودولي.
يتطلب الأمر اليوم من شركة “ميتا”، المالكة لفيسبوك، ما هو أكثر من مجرد صيانة تقنية. فهي مدعوة لتحمل مسؤوليتها الأخلاقية والقانونية، عبر اتخاذ خطوات ملموسة تبدأ بإزالة هذا الإشعار الكاذب، وتقديم اعتذار علني يرقى إلى حجم الضرر الذي تسبب فيه هذا الخطأ، مرورًا بتعويض الأذى النفسي والاجتماعي الذي خلّفه، وانتهاءً بمراجعة آليات التحقق والتفاعل مع شكاوى المستخدمين، خصوصًا أولئك الذين ينتمون إلى دول لا تحظى عادة باهتمام الشركات الكبرى.
لقد بات من الضروري أن تعيد الشركات الرقمية الكبرى النظر في سلوكها تجاه المستخدمين من خارج “مراكز القوة”، وأن تضمن آليات إنصاف رقمية قائمة على المساواة، لا على الامتيازات الجغرافية أو الاقتصادية. فالهويات الرقمية، شأنها شأن الهويات الواقعية، تستحق الحماية والاعتراف، لا الإلغاء أو التزييف.
إن هذه القضية لم تعد تخص شخصي فقط، بل تطال كل مستخدم مُعرّض لأن يتحول في لحظة، وبضغطة زر، إلى “ميت افتراضي”، دون أن يجد من يستمع إليه. إنها معركة من أجل “الكرامة الرقمية”، ومن أجل عالم افتراضي أكثر عدلًا وإنصافًا للجميع، مهما كانت بلدانهم أو لغاتهم أو دياناتهم أو أعراقهم أو مواقعهم على خريطة النفوذ.