المقاربة السيميوطيقية لتحليل النصوص القانونية (النموذج/الفصل 369 من ق م م/ والفصل 550 من ق م ج)

بقلم: حسن حلحول (•)

لقد دفعني الشغف والشغب في البحث في موضوع معقد لم يسبق أن خاض فيه من قبل رجال القانون، فإذا كانت ثمة كثير من المؤلفات في المكتبات العربية التي تناولت بالدرس والشرح والتفسير النصوص القانونية ،إلا أنها لم ترق إلى مستوى المطلوب المتجلي في تطبيق المنهج العلمي عليها، كما هو الشأن في الحقول المعرفية الأخرى التي أحسنت توظيف المناهج العلمية في تحليل النصوص، مما دفعني أن أبحث في الموضوع فوجدت تطبيق التحليل السيميوطيقي على النصوص القانونية أنجع وأفضل منهج لتفسير النص، وهو عمل ضخم وقد يكون بادرة وبداية للنظر في تطبيق المناهج العلمية في تحليل النصوص القانونية.
إن عنوان هذه المساهمة يبدو أنه جمع بين المسطرة المدنية والمسطرة الجنائية بخصوص الفصلين المذكورين اللذين من المسائل المسطرية للقرارات الإحالة بعد النقض.
إن استعمال آلية المقاربة السيميوطيقية كمنهج تحليلي ليس مطلوب لذاته ،وانما لتحقيق غاية وهي محاولة لأجل التدخل كلما أستدع الأمر ذلك من خلال استعمال المنهج البنيوي الذي يمكن أن يساهم في تقديم مقترحات بنيوية تفسيرية بغرض إيجاد حلول مقبولة لمشكلة قانونية التي قد تثار، وهي تسعى إلى إعادة بناء النصوص القانونية على أساس مبدأ وحدة التعليل وليس على ثنائية التعليل .
وباعتبار أن المسطرة المدنية هي الأصل إذ تطبق حتى في بعض القضايا الجنحية أو الجنائية في حالة عدم وجود النص في المسطرة الجنائية، ينص الفصل 369 من ق م م على مايلي” إذا قضت محكمة النقض بنقض حكم أحالت الدعوى إلى محكمة أخرى من درجة المحكمة التي نقض حكمها أو بصفة استثنائية على نفس المحكمة التي صدر عنها الحكم المنقوض ويتعين إذ ذاك أن تتكون هذه المحكمة من قضاة لم يشاركوا بوجه من الوجوه أو بحكم وظيف ما في الحكم الذي هو موضوع النقض.
إذا بتت محكمة النقض في قرارها في نقطة قانونية تعين على المحكمة التي أحيل عليها الملف أن تتقيد بقرار محكمة النقض في هذه النقطة.
إذا رأت محكمة النقض بعد نقض الحكم المحال عليها أنه لم يبق هناك شيء يستوجب الحكم قررت النقض بدون إحالة”
وفي نفس موضوع قرارالنقض والإحالة ينص الفصل 550 من ق م ج على مايلي ” إذا أبطل المجلس الأعلى مقرراً صادرا عن محكمة زجرية ،أحال الدعوى والأطراف على نفس المحكمة متركبة من هيئة أخرى وبصفة استثنائية على محكمة أخرى من نفس نوع ودرجة المحكمة التي أصدرت المقرر المطعون فيه ، غير أنه في حالة الإبطال من أجل عدم اختصاص المحكمة التي أصدرت الحكم المقرر وابطاله يتعين إحالة القضية إلى المحكمة المختصة قانونا ”
إذا بتت محكمة النقض في قرارها في نقطة قانونية تعين على المحكمة التي أحيل عليها الملف أن تتقيد بقرار محكمة النقض
وحتى يتم فهم هذه النصوص وتفكيكها تفكيكا علميا، نرى أن الاستعانة بالعلوم اللسانيات وبالضبط التحليل السيميوطيقي للنصوص من ضروريات التحليل العلمي.
فما معنى السيميوطيقا ؟ فهي تعني التفكيك والتركيب وتبحث عن سنن الاختلاف ودلالته، فعبر التعارض والاختلاف والتناقض والتضاد بين الدوال اللغوية النصية يكتشف المعنى واستخرج الدلالة،باختصار شديد الغاية هي البحث عن المعنى والدلالة واستخلاص البنية المولدة للنصوص منطقيا ودلاليا.
عناصر تحليل السيميوطيقا ثلاثة:
التحليل المحايث: المقصود به البحث عن الشروط الداخلية المتحكمة في تكوين الدلالة خارج عن ظروف النص والمؤلف ، بمعنى ينظر إليه على أنه أثر ناتج عن العلاقات الرابطة بين العناصر المكونة للنص.
التحليل البنيوي : حتى ندرك معنى الأقوال والنصوص يفترض وجود نظام مبني على مجموعة من العلاقات ،فلا دلالة لنص من النصوص إلا ضمن شبكة من الترابط القائمة بينها ، وبالتالي لا نهتم إلا بالعناصر المكونة لها التي تبلور نسق الاختلاف ،كما يستوجب التحليل البنيوي الدراسة الوصفية الداخلية للنص ومقاربة شكل المضمون وبناؤه.
التحليل الخطابي : إن اللسانيات البنيوية بكل مدارسها واتجاهاتها تهتم بدراسة الجمل حيث تبدأ بأصغر وحدة لغوية إلى أكبر وحدة ، فإن السيميوطيقا تتجاوز الجملة إلى تحليل النص.
إن إبستمولوجية النص القانوني ينبني على دقة التأويل والتفسير، طالما أن لغة القانون طبيعية، فإن الاستدلال عند رجال القانون مبني على الدلالة اللغوية بمعنى أنه يعتمد على ما هو حسي أي الملفوظات، وليس على الاستدلال الصوري المتداول في العلوم الخالصة ( المنطق والرياضيات) .
هناك ثلاثة سمات النص :
السمة الشفوية : وهي تتكون من كل العناصر اللسانية لمجموع الجمل التي تراها.
السمة النحوية : لا نرجع فيها إلى النحو وإعرابها ولكن نرجع إلى العلاقات بين وحدات النص.
السمة الدلالية: وهي عملية ذهنية معقدة، مرتبطة بمضمون دلالي تقوم على الأسس التالية الوحدة ( الجملة)،ثم السياق ،ثم ما يقصده المتكلم .
إن أنماط الفعل التفسيري كثيرة باعتبار صدق ملفوظات الحالة بدل حقيقة الملفوظات وهي تعمل في الاتجاهين : اتجاه التجلي واتجاه المحايثة وباعتبار ما بينهما من تلازم يتكون هذا الفعل التفسيري.
فإذا ما وقع الانتقال الحكم من اتجاه التجلي يعني الإحالة وعدم الإحالة إلى اتجاه النقض وعدم النقض كان ذلك عمل تفسيري يدعى عملا قضائيا.
أما إذا وقع الانتقال من اتجاه المحايثة إلى اتجاه التجلي، فإن ذلك من عمل فعل تفسيري يدعى فعلا إجرائيا.
إن من المميزات الأساسية في التحليل السيميوطيقي للنصوص القانونية تأتي على صورة ملفوظتين : ملفوظ الفعل
وملفوظ الحالة، ونعني بهذه الأخيرة تلك العلاقة (الوصل أو الفصل )الموجودة بين فاعل الحالة يرمز إليه ( فا. ح) وبين موضوع القيمة يرمز إليه (مو. ق) (فا،ح ٨ مو، ق)أو (فا،ح ٧مو، ق )ويكون (فا. ح) وهو فعل النقض و(مو. ق) هو الإحالة على المحكمة .
ونعني بملفوظ الفعل محكمة النقض حين تحكم بما تقضي به أي تحويل الحالة .
لهذا نلاحظ في الفصل 369 ق م م جاءت بما يلي” إذا قضت محكمة النقض بنقض حكم أحالت الدعوى إلى محكمة أخرى”
وفي الفصل. 550 ق م ج “إذا أبطل المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) مقرراً صادرا عن محكمة زجرية ،أحال الدعوى والأطراف على نفس المحكمة ” استهل المشرع ب” إذا ” في الفصلين معا دلالتها اللفظية تفيد في الغالب ظرفا للمستقبل مضمنة معنى الشرط، وتختص بالدخول على الجملة الفعلية، عكس إذا الفجائية التي تدخل على الجملة الاسمية.
يستفاد بكل دقة الفرق الشاسع بين الفصلين في هذين الملفوظين “قضت” و” أبطل” بالرغم من أن ثمة وحدة الغاية وهي نقض الحكم كفاعل الحالة (فا، ح) وكذلك بالنسبة لوحدة موضوع القيمة (مو، ق ) .إذن فالعلاقة بين فاعل الحالة وموضوع القيمة متصلة تتجسد في وحدة التعليل المنطقية الموجودة في النص ، مع الاختلاف في تداول الألفاظ ففعل ” أبطل ” غير سليم في نص 550ق م ج لأن صياغة الملفوظ يحول الحالة إلى حالة تصبح أكثر تعقيدا باعتبار أن التمييز بين البطلان والإبطال يجعل القارئ يظن أن النقض والإحالة يتعلق بشكلية القضية لأنه جاء بملفوظة أبطل إبطال لا يدل في تأكيد الحقيقة الدقيقة، مما يجعلنا نفهم من البطلان دلالته يرتبط بالنقض والاحالة في موضوع القضية،
وأما صياغة ملفوظ” قضت ” في الفصل 369ق م م يعني وصف صادق في علاقة فاعل الحالة بموضوع القيمة ، فهي كما تبدو وكما تفهم وكما تفسر وكما يلزم من ذلك تعتبر أكثر تحديدا في النص.
لقد توصلنا بواسطة آليات التحليل السيميوطيقي إلى جعل هذين الملفوظين السابقين الواردين في الفصلين متضادين، كما يظهر التضاد أيضا بجلاء في النصين عندما جعل موضوع القيمة (مو، ق) أي قرار الإحالة في الفصل 369 ق م م الأصل فيه هو إحالة القضية على محكمة أخرى والاستثناء على نفس المحكمة ،أما في الفصل 550 ق م ج العكس جعل الأصل في قرار إحالة القضية هو على نفس المحكمة والاستثناء على محكمة أخرى،
وقد يعقب معقب على أن لكل مجال نصوصه الإجرائية تنظمه المدني ليس هو الجنائي وبالتالي فإن الاختلاف في الجوهر بالضرورة يترتب عنه الاختلاف في العرض،
أقول إن قرار محكمة النقض وهي تبت في قضية معينة بنقض الحكم والإحالة هي سمة تشترك فيها جميع القضايا لوجود بينها علاقة الاتصال وليست علاقة الانفصال أي علاقة تخص المدني والجنائي معا بالرغم من الاختلاف في المجال،وتجدر الإشارة هنا أن من بين ما يبت فيها في القضايا الجنائية أو الجنحية الدعوى المدنية التابعة. فمن شأن توحيد استعمال الألفاظ في مثل هذه الحالة يجنب تعقيد تفسير النصوص القانونية، كما هو الشأن في القانون المقارن يأخذ بوحدة النص في قرارات الإحالة.

(•) محام بهيئة الرباط

اترك رد