جائحة ارتفاع الاسعار: دراسة شاملة

بقلم: رضوان القادري (.)

اسبابها المباشرة، و سبل و امكانيات تجاوزها.

مما لا شك فيه مطلقا ان الحديث عن غلاء المعيشة عموما، وخاصة منه المتعلق بالمواد الغذائية، يعتبر موضوع الساعة، بمعنى انه لا بد أن يشغل الصحافة والحكومة والراى العام والشعب على حد سواء ليدلي كل من هذه الأطراف بدلوه حول طبيعة معضلة اجتماعية وسياسية تنتظر الحل، فيكون الإدلاء بالرأى في هذ الصدد بمثابة مشاركة غير مباشرة من الجميع في هذا الحل.
ونحن إذ نتعرض بالدرس والتحليل لهذا الموضوع الهام، نتوخى اذن، بموضوعية واستبصار، الكشف عن الأسباب المؤثرة التي تجعل الغلاء، كظاهرة سوسيولوجية، واقعا معيشا، والإفصاح عن طرق تجاوز هذه الأزمة الشبيهة بالجائحة، واقتراح وسيلة قمينة بتحقيق ما يسمى بالأمن الغذائي بقدرالمبلغ من العلم وبحسب الإمكان…

1- الغلاء كظاهرة سوسيولوجية غير صحية:

قلنا بخصوص الغلاء بأنه يكتسي طابع ظاهرة سوسيولوجية، وهذا التوصيف صحيح من حيث أن هذه الظاهرة، بالمفهوم الدوركهايمي للكلمة، جامعة للخواص الأربع التي تجعلنا نفهمها بوصفها كذلك مطبقة على مشكلة الغلاء كظاهرة من هذا النوع، وتلكم هي الخارحية والموضوعية والعمومية والإكراه.
فإذا بحثنا عن هذه الخواص الأربع وجدناها بالفعل ماثلة في الغلاء كظاهرة اجتماعية، نظرا لكون هذه مفروضة على الجميع كقهر لا سبيل إلى تجاهله، وكونها ذات انتشار واسع، ولا يد لأحد فيها بسبب مصدرها الخارجي وبسبب موضوعية ظهورها في الزمان والمكان.
بيد اننا عندما نتحدث عن الغلاء، نتساءل قائلين : هل فعلا هناك غلاء موسميا كان أو دائما، ام أن بعض الناس قد اعتادوا التشكي، كدأب اولئك الحزاني الذين لا يعجبهم شىء في الوجود ؟
وعند التأمل في مشكلة الغلاء كظاهرة سوسيولجية حقيقية حسب الشرح الوارد أعلاه، يمكن القول، من غير مواربة، بأنه لا حاجة لنا إلى تساؤل من هذا القبيل طالما أن الغلاء معضلة اجتماعية ملموسة يعاني منها بالفعل كثير من الناس في الزمان والمكان.
كثير من الناس؟ ولماذا لا نقول كل الناس؟
لا يصح أن نقول ذلك لأن الغلاء لا يسمى غلاء إلا إذا كان الناس غير قادرين على شراء ما هم في حاجة إليه
من مواد غذائية وغيرها بسبب تدني القدرة الشرائية لديهمم.
وبناء على هذا الفهم، فإن فئة من المواطنين الذين يتمتعون بمرتبات شهرية مرتفعة، كالموظفين السامين مثلا، وفئات اجتماعية أخرى
من ذوي الدخل المرتفع غير مهتمين عادة بظاهرة الغلاء، الشىء الذي يجعل من
الغلاء مشكلة نسبية يتضرر منها البعض دون الآخر.
أما واننا الآن على يقين تام ( انطلاقا مما نرى ونسمع من حولنا )، بأن الغلاء ظاهرة ملموسة وامر واقع، فإن التفكير في الأسباب يصبح مفروضا، إذ أن الاهتداء إلى الأسباب الظاهرة والباطنة للغلاء ( كمشكلة شاغلة لدى ذوي الدخل المحدود ) يمكن من حل هذه المعضلة التي نحن بصددها.
فما هي يا ترى اسباب هذه الظاهرة المؤسفة التي يعاني منها الكثير ؟
سوال وجيه ومبرر لأن التعرف على هذه الأسباب يمكن من احتوائها وإزالتها طلبا للرخاء ورغد العيش؟

2- أسباب الغلاء والكلام في البعض المؤثر من هذه الأسباب:
من غير حاجة بنا إلى ترتيب وتصنيف حسب الأهمية، يمكن إرجاع مشكلة غلاء الأسعار في بلادنا إلى خمسة أسباب ظاهرة هي كالآتي :
– ازمة المحروقات،
– شبكة التسويق وخطر المضاربات،
– ارتفاع تكلفة الإنتاج،
– توقع نقص التدابير الوقائية.
– التصدير.

هذه جملة اسباب مؤثرة على السلع بواسطة الغلاء اللاحق بها لكونها كذلك، ولماكانت بعض هذه الأسباب ليست
بذات تأثير سلبي بالغ، فإننا سنعرض هنا بشىء من التفصيل لبعض هذه الأسباب فقط دون غيرها.
ونعرض من
ذلك في عجالة مسألة المحروقات ومعضلة المضاربة لأثرهما السلبي علي السوق.

– ازمة المحروقات.
من غير أن شك أن تاثير غلاء المحروقات سلبا على الأسعار، ولا سيما اسعار المواد الغذائية والفواكه والخضار، لا يحتاج إلى دليل.
فمن البديهي التسليم بان كلفة نقل هذه المواد من معامل أو حقول الإنتاج إلى محلات البيع، او من مدينة إلى أخرى لابد أن تضاف إلى ثمن السلعة، وهذا امر طبيعي لا يحدث منه ضرر يذكر، وإنما الضرر حاصل من جراء ارتفاء ثمن البنزين المستعمل في نقل البضائع.
أضف إلي ذلك أن معامل الصناعة الغذائية industrie agro-alimentaire التي تشتغل بالبنزين
تضيف مصاريفها إلى تكلفة الإنتاج، الشىء الذي قد يجعل السلع مطبوعة ببعض الغلاء، ومع ذلك يمكن القول، مرة أخرى،
بأنه لا حرج في هذا الأمر
على المستهلك.
فلا جرم أنه بسن سياسة شعبية وطنية تراعي القدرة الشراىية للمواطن وتحول، هكذا، دون تسرب هم الغلاء إلى قلوب هؤلاء، ستكون الدولة قد عملت على اتخاذ جملة من التدابير الواجب اتخاذها لمعالجة هذه الظاهرة المؤلمة.
راى من هذا القبيل لدى عقلاء المحللين والمتتبعين والمهتمين من رجال الاقتصاد والسياسة لا شك مقنع إلى حد ما بأن ظاهرة الغلاء المرضية وغير المرضية ليست ناتجة فقط عن غلاء المحروقات، كما يظن البعض، وذلك لتدخل عناصر أخرى في هذه الظاهرة جاعلة من الغلاء واقعا مرا معيشا ومشكلة محزنة للقلوب. غير أن التقليل النسبي من شأن الآثار السلبية للمحروقات على الأسعار لا يعفينا من التعرض للخلل الذي نلاحظه في تسيير قطاع المحروقات الحيوي وما يقع فيه من تجاوزات، وهذا كله مدعاة للتأكيد علي سلبيات القطاع بصفة عامة في المجال الاقتصادي.
وعلما بأننا عند تعرضنا للتدابير الوقائية نود تخصيص حيز من هذا العرض لشركة لاسمير المأسوف عليها لمعرفتنا بأثرها الإيجابي على اسعار المحروقات أيام وجودها، ولكون هذا القطاع مرتبطا، نظرا لذلك على نحو ما يبدو للعيان، بشركة لاسمير، فإن اعتبارات منهجية تدعو إلى تأجيل الكلام في هذا المضمار ضمن التدابير الوقائية الآنفة الذكر.

– معضلة المضاربات.
إذا كان الجميع يعلم أن المستهلك، من الناحية الاقتصادية، هو العنصر الذي يتم إنتاج البضاعة من أجله، فإن وصول هذه البضاعة إليه، كما هو معلوم حسب الملاحظة المشاركة والتجربة المباشرة، يتطلب وجود قناة شحن وتوزيع وتسويق circuit de distribution et de commerciaisation، ولهذا فكلما كانت هذه التكاليف قليلة ومنخفضة كلما كان ذلك بمثابة تخفيف لعبء الغلاء أثناء التسوق.
وبما أن هذه الملاحظة فيها من الإيحاء ما يكفي لاعتبارها، في هذا المقال، رايا معبرا عن إحدى الوسائل الواجب اعتمادها ضمن التدابير الحكومية الوقائية المتخدة لمحاربة الغلاء، فلا داعي لنا هنا إذن، عند الحديث عن تلك التدابير، إلى تكرار هذا الفكرة كإجراء وقائي.

– شبكة التسويق ومعضلة المضاربة
وحتى تكون أسباب الغلاء ( إن وجد )، ظاهرة للعيان ومفهومة اكثر، فإنها تظهر وتفهم بجلاء إذا علمنا أن قناة التسويق الآنفة الذكر يتقاسمها فرقاء أربعة هم على التوالي :

– المنتج، – الوسيط الموزع، – اسواق الجملة أو الإيداع،
– تاجر التقسيط.
وبهذا التصور للتنظيم الهيكلي الخاص بالبضاعة إنتاجا وتوزيعا وتسويقا- إذا صح هذا التعبير- يتضح لنا ان أى اختلال أو تهاون أو تلاعب أو تقصير هنا او هناك عبر هذه القناة او السلسلة يكون منذرا بتصدع ذلك النظام تصدعا ينعكس على الجميع، وخاصة على المستهلك، في شكل فوضى الغلاء المشتكى منه، مما يستوجب المراقبة المستمرة من طرف الحكومة.
بيد ان هذه الملاحظة الإجمالية حول شبكة الإنتاج والتوزيع والاستهلاك إذا كانت كافية كبيان كى لا نضطر لبسطها مرة أخرى في معرض الكلام عن التدابير الوقائية، فإن مسالة التوزيع تقتضي الوقوف عندها هنيهة، ولكن من غير إثارتها مجددا، كغيرها من التدابير الوقائية، فيما ياتي من العرض.
بغض النظر عن هذا الجانب أو ذاك من عناصر التأثير السلبي على الأسعار داخل دائرة التوزيع والتسويق، فإن الغلاء لا محالة يصبح قدرا مقدورا لا مفر منه إذا كثر الوسطاء الموزعون للمنتوج الواحد، واستولى الطمع والجشع على هؤلاء أثناء عملية التوزيع في شكل احتكار وتخزين وزيادة، الخ.
ولنضرب على ذلك مثلا بافتراض وسيط يتولى نقل الخضار والفواكه من حقل إنتاجها إلى سوق الجملة بمدينة ما. طبقا لهذا التصور، فإن هذا النشاط سليم من الناحية القانونية وغير ضار بالمستهلك من الناحية الاقتصادية. ولكن لو حدث ان تدخل عدة وسطاء لنقل نفس المنتوج إلى سوق الجملة او للاتجار به وفق أساليب الاحتكار الممنوع شرعا وقانونا او بالزيادة في الثمن فوق ثمن أجرة الناقل الموزع، فهنا نصبح امام نشاط حرام يتضرر منه المستهلك ايما ضرر.
ومن المعلوم انه، طبقا للقوانين الاقتصادية، كلما كثر الوسطاء الموزعون كلما ارتفع سعر البضائع ارتفاعا ضارا بالمستهلك.
وغير خاف ايضا أنه كلما افتقر هولاء الوسطاء إلى خلق المسلم أو غاب لديهم الضمير المهني، إلا وانعكس ذلك السلوك الآثم على الأسواق في شكل فوضى عارمة تلهب الأسعار بكيفية لا تمكن المواطنين ذوي الدخل المحدود من تلبية حاجاتهم من المواد الغذائية.
ومن البديهي، وبطبيعة الحال، فإن الحكومة
تتدخل دائما وباستمرار لمنع فوضى من هذا القبيل وجعل حد للاحتكار المقيت، كما نلمس ذلك عادة.

– التدابير الممكنة لتلافي الغلاء كعلاج للمشكلة.
من ضمن التدابير التي يمكن اتخاذها لمحاربة الغلاء
نثير الانتباه إلى إمكانية العودة إلى معالجة مشكلة المحروقات ومشكلة لاسمير.
وكل هذه التدابير قمينة بجعلنا نتخطى الأزمة ونوفر ظروف الرفاه مثلما سنري ذلك في التفاصيل اسفله. كما ان السعى إلى تحقيق الأمن الغذائي ضروري لأن من شأن ذلك أن يقدم إمكانات كبيرة للتغلب على ارتفاع الأسعار وتوفير الغذاء من غير خوف على المستقبل.
فالحديث هنا يدور حول عمل الحكومة الإيجابي الذي يتم على شكل تدابير لتسيير الشان العام وضمن ذلك اتخاذ التدابير الوقائية لتلافي غوائل الغلاء وتوفير حاجات المواطنين من الغذاء بأسعار مقبولة في المتناول. وهذا الدور لا يقلل من اهميته أو يشكك فيه إلا معارض لحاجة في نفسه او لغاية يتوخاها بهذا المسلك الشاذ.
فالتدابير الوقائية لمحاربة الغلاء والعمل على توفير المواد الغذائية هما من الأولويات التي تكرس لهما الحكومة جهدها بدون كلل او ملل، كما ان التعامل بصرامة مع المضاربين هو ما يطبع تصرفها في هذا المضمار بكيفية ملحوظة.
فعبثا إذن يرى البعض ان الحكومة مقصرة في مراقبة الأسعار وتنظيم شبكة التسويق لخير المواطن، والحقيقة غير ذلك، إذ لو صح رأى من هذا القبيل للاحظنا فوضى عارمة في الأسواق تتجلى في سوء التوزيع والغلاء المتفاحش، مما يجعل المواطنين من ذوي الدخل المحدود عاجزين عن تلبية حاجاتهم من المواد الغذاية ويخلق في الأوساط الشعبية قلقا لا تحمد عقباه.
وعلما بأن الحياة الاجتماعية في البلاد هي، بحمد الله، على ما يرام لاستقرار نسبي في الأسعار وكون هذه الأسعار، عموما، في المتناول وللاستقرار السياسي الذي ينعم به المغرب في ظل عاهل البلاد حفظه الله وايده، وجب التأكيد على أن مراقبة الحكومة للأسعار وللأسواق مستمرة بواسطة اجهزتها ولجانها المتخصة وشرطتها الإداري.
هذا فضلا على تعاملها بصرامة مع المضاريبن المتاجرين بأقوات الشعب
مثلما عادة.
فإن يقل قائل بأن عمل الحكومة في هذا الصدد موسمي او فلكلوري او قاصر، نقل له بأن شواهد الحال تكذبك، ولو كان الأمر كما تدعي لما كان بإمكانك في هذا البلد الأمين الطيب ان تحصل على غذائك ولا ان تبيت آمنا في بيتك.
ليس راينا هذا مدحا للحكومة وإنما هو اعتراف بواقع ملموس يتوفر فيه الأمن والأمان والغذاء للجميع في ظل الدوحة العلوية الشريفة وبفضل تفاني عاهل البلاد اعز الله امره في خدمة شعبه الوفي واتباع الحكومة لتعليماته من اجل الصالح العام.

– الأمن الغذائي كمرتبة عليا من مراتب التدابير الوقائية وضرورة تشغيل مصفاة سمير من جديد.
ولنبدا كلامنا بمصفاة لاسمير.
مهما تكن مشكلة مصفاة سمير او لا سمير بالمحمدية، ورغم صدور حكم قضائي في هذه المسألة، ومهما يكن مبلغ الديون التي ينبغي دفعها لتشغيل هذه المصفاة من جديد، فإن المصفاة يجب ان تعاد إلى سالف عهدها لتبدا عملها الإنتاحي لصالح الاقتصاد الوطني.
فلا بد ان يكون كل مواطن مغربي غيور على بلده من الذين يتمنون ازدهار اقتصاد البلاد. وهذا شىء يمكن ان يتحقق لو أعيد تشغيل مصفاة سمير المأسوف عليها.
كشركة صناعة وتكرير بترول بطاقة انتاجية تقدر ب 125000 برميل بترول يوميا كانت هذه الشكرة الصناعية الرائدة في ميدانها تغطي 90 بالمأية من حاجات البلاد من النفط المكرر العالي الجودة والقليل التكلفة. وبهذا البترول غير المكلف، بالمقارنة مع بترول اليوم الباهظ الثمن، كنا نضمن وصول البضاعة والسلع والمواد الغذائية إلينا بثمن بخس لا يتأذي منه المواطنون من ذوي الدخل المحدود، كما كان بإمكاننا السفر في سياراتنا بأقل تكلفة لكون بترولنا يكرر في بلادنا بدل ان يأتينا في حالته الحالية بأثمان باهظة بعد أن تضاف إليه تكاليف كثيرة مرهقة لكواهل من يحتاجون إلى النفط في حياتهم او شغلهم اليومي.
فلما إذن لا نأسف على إفلاس هذه الشركة بسبب سوء التدبير وانعدام الروح الوطنية وضياعها من بين ايدينا كما ضاعت منا، علي سبيل المثال لا الحصر، شركة لاسافت للنسيج ومعامل الزربية المغربية وغير ذلك من الممتلكات الوطنية التي لا تقدر بثمن؟
بعد الحسرة والأسى على مضيعات، ماذا يمكن قوله، اخيرا، عن الأمن الغذائي الذي نعتبره جزءا لا يتجزأ من الموضوع المعالج هنا عن ازمة الغلاء كحقيقة ملومسة، ولكنها، على أية حال، ليست لا ماساة ولا كارثة، وذلك بحجة انه لا توجد مجاعة بالمغرب، وأن كلا منا هنا ما بين ظهرانينا يأكل من زرق الله المقدر له.
وباعتبار مسألة الأمن الغذائي من صميم حديثنا في هذا الموضوع، فما الأمن الغذائي إذن، وماذا يخول لنا في مضمار الغذاء، وما السبيل إلى مثل هذا الأمن؟
فهذه جملة اسئلة سنجيب عنها باقتضاب ونحن هنا في نهاية المطاف، ونقول باقتضاب لأن الموضوع طويل وشائك، وما لا يدرك كله لا يترك جله.
إن الحديث عن الأمن الغذائي يجعلنا رهن الإيمان بمقتضى القس ورجل الاقتصاد البريطني روبرت توماس مالتوسRobert T. Malthus صاحب نظرية المردودية التنازلية loi des des rendements décroisants، وكذا رهن افكار اساطين الاقتصاد الرأسمالي الكلاسيكي ريكاردو وآدم سميث وجون كينز وغيرهم. ومعلوم أن هذا الاقتصاد قائم على الاستغلال والجشع والبحث عن الأسواق لتنمية الادخار وتراكم الثروات. ولكن الذي يهمنا هنا نظرية مالتوس الآنفة الذكر التي مفادها ان نمو السكان يتم بوتيرة أقوى من وسائل العيش (subsistances)، الشىء الذي ينتج عنه لاتوازن تصاعدي
déséquilibre croissant.
ويعني مالتوس بنظريته تلك ان الأرض سوف لن تبقي كافية لتغذية هذا العدد الهائل من السكان الذين يزداد عددهم طبقا لمتوالية هندسية progresssion géométrique. في حين ان مساحة الأرض المزروعة تنقص بفعل امتداد المدن لإيواء ازدياد السكان بهذه الوتيرة. لكن الذي لم يعلمه مالتوس هو ان الرزق بيد الله وان رزقنا نحن البشر في السماء وليس في الأرض، مصداقا لقوله تعالى : وفي السماء رزقكم وما توعدون.، الآية.
كما ان هذه النظرية منافية لللتوكل على الله، وفي هذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو انكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا ( رواه الترمذي).
ومع ذلك فلا باس من ان نتعامل مع فلسفة الأمن الغذاىي كما لو كانت حكمة يصح العمل بها اعتقتدا وتطبيقا.
والسبيل إلى ذلك هو في استصلاح الأراضي الزراعية وتوسيع مساحة الأراضي الصالحة للزراعة، وفي منح التسهيلات للفلاحين كى يحصلوا على جودة الإنتاج وكثرته، لا بواسطة قروض القرض الفلاحي المرهقة للكواهل ولكن بواسطة مساعدات مادية مجانية، وبالإعفاء من الضرائب كليا.
اما الفلاحون والمزارعون الكبار فحب الوطن يقتضي منهم سلوكا عاليا ويحتم عليهم ان يدفعوا الضرائب للدولة بصدر رحب وبروح.
وطنية عالية.
ومن جملة التدابير الواجب اتخاذها بروح وطنية عالية ايضا ضرورة الكف عن التصدير ما لم تكن الأسواق الداخلية فيها ما يكفي من السلع والبضائع لتغطية وتلبية حاجات المواطنين كلها.
وإذا كانت فلسفة” المغرب الأخضر” قابلة للتجديد، فمن الخير كل الخير ان تجدد تماشيا مع نظرية الأمن الغذائي وخدمة لها، ولكن يرجى ان يكلف بهذا البرنامج الوطني الهام رجل وطني غيور على مصلحة بلاده، اى شخصية فذة متفانية في حب الوطن ومتصفة بنكران الذات.
هذه جملة تدابير من بين كثير غيرها مذكورة في هذا المضمار بكيفية انتقائية علي سبيل المثال لا الحصر.
فبهذه التدابير يمكن للمغرب الذي كان يصدر الحبوب زمن الاحتلال الفرنسي ان يعود إلى سالف عهده فيصبح قادرا من جديد على تصدير الحبوب، فضلا عن تصدير المواد الغذائية الأخرى كالحوامض والبواكير والخضروات.
وبهذه التدابير يصبح المغرب ايضا مستغنيا بثرواته الزراعية ويمكن للمغاربة ان يحيوا حياة اكتفاء ذاتي autarcie من غير حاجة منهم إلى استيراد الحبوب وخاصة القمح من أوكرانيا وكندا.
ليست هذه التدابير هي كل التدبير الممكنة للوصول إلى تطبيق نظرية زراعية هامة يتحدث عنها العلماء وخبراء الأمم المتحدة، ولكن القليل من التدابير التي سردناها قمين بجعلنا نرى الأمن الغذائي في بلادنا حقيقة ماثلة امام اعيننا ليستفيد منها الشعب المغربي الذي يستحق كل خير.
بيد أن هناك ما هو اهم من الأمن الغذائي، مهما يكن من امر، وذلك في منطوق الحديث النبوي الشريف الذي يلخص بكيفية رائعة- وقد اعطى النبي الكريم جوامع الكلم- نظرية مالتوس ونظرية ابراهام ماسلو في الحاجات البدنية والنفسية، والحديث هو : من اصلح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها.
وبتامل لهذا الحديث النبوي الشريف الواضح المعالم والمعنى، نرى ان المغاربة متمتعون، والحمد لله، بكل ما نص عليه حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم.

في هذا الموضوع كلام عن الغلاء وعن التدابير المتخذة من قبل الحكومة لتلافيه، وكلما بدت لنا فكرة تخدم الموضوع إلا وعمدنا إلى جعلها جزءا لا يتجزا منه، ومن ثمة ذلك العرض السريع عن المحروقات وشركة سمير، وعن نظرية الأمن الغذائي التي لها صلة وثيقة بموضوع الغلاء وما هو من جنسه.
افكار كثيرة اتينا بها هنا سردا او تلخيصا فجاء الموضوع ذا طابع شمولي ولو غلبت عليه روح التلخيص أحيانا في هذا الجانب أو ذاك لاعتبارات منهجية.
وعلى العموم، فلو نظرنا إلى العمل البشري كتدابير من اجل الخير، فهو قاصر عموما، ولكن إذاً خلصت النيات انتفي النقد السلبي ليحل محله النقد البناء.
ملاحظة من هذا القبيل يصح تطبيقها على العمل الحكومي في سعيها نحو محاربة الغلاء وخدمة المواطنين، وقد جئنا في هذا الموضوع بالمفيد الاهم منها، وتطبيقها على الطرح الأكاديمي لموضوع يعرض ( في وقت وجيز وتحت اكراهات عدة ) لمجهودات وافكار تقتضي مقومات فكرية هامة للإتيان فيه بكل المعطيات التي تكفي وصفا للواقع وإقناعا للقارئ.

(.) رئيس جامعة الكفاءات المقيمة بالخارج، متخصص في تحليل السياسات

اترك رد