قضايا في المنهج

بقلم: ادريس الكنبوري

يخوض بعض الباحثين والمختصين في أمور ترتبط بمسألة تأثر القرآن بثقافات سابقة على نزوله، وهي مسألة على جانب كبير من الأهمية، ولا ضير في طرحها وقد طرحها باحثون أجانب ومستشرقون منذ قرنين على الأقل، هذا إذا لم نقل إنها تعود إلى قرون خلت مع الكنيسة الكاثوليكية، ولكن مواقع التواصل الاجتماعي أعادت نشر هذه الأفكار لترويجها وسط الجموع، بينما كانت في السابق ضمن دائرة الباحثين فقط. لكن ما هي القصة باختصار؟ القصة أن القرآن ليس كتابا أصيلا بل هو نتف من ثقافات مختلفة وأديان متنوعة. إلى هنا الفكرة واضحة. لكن: ما هو المنهج العلمي لتناول المسألة؟ هذه هي القضية المحورية: المنهج. لنحاول تقريبه باختصار لأن ذلك يتطلب تناولا أعمق، لكن نحن هنا في موقع للتواصل الاجتماعي والسقف المحدد هو التلخيص والإجمال لكن مع الوضوح. من الناحية الوجودية، أو الأنطولوجية كما يقال، يتناول القرآن قصة الخلق. فهو كتاب نزل على نبي الإسلام في بضع سنين، لكن دائرته الزمنية تشمل تاريخ الخلق. ضمن تاريخ الخلق يوجد تاريخ الدين. نحن لا نعرف بداية نشأة الدين لكن ما نعرفه أنه لم يوجد خلق بلا دين. علماء الأديان يقولون إن الدين يعود إلى عصور سحيقة ولا يمكن فصله عن الخلق. عندما نعود إلى القرآن نفهم أن إبراهيم أبو الأنبياء وأنه أول من وضع تسمية المسلمين”هو سماكم المسلمين”. لا نعرف متى عاش النبي إبراهيم عليه السلام تحديدا لكن البعض يعود به إلى ألفين قبل الميلاد. المهم أنه كان قبل جميع الحضارات التي تطورت فيها الأديان. هذه نقطة جوهرية بدونها لا نتقدم. معنى ذلك أن أول دين في التاريخ هو دين التوحيد. لكن الإبراهيمية لم تعش طويلا. حصلت انحرافات لدى مختلف المجتمعات وتم تحوير الأديان. القرآن يحدثنا عن أمور وتجارب نحن لا نعرفها بالتحديد ولا نعرف متى حصلت وأين. مثلا صاحب الجنتين وأصحاب القرية وطالوت وجالوت وأصحاب الرس والرجل الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه وغير ذلك، ثم قصص الأنبياء، ثم انتشار وتعدد الأنبياء الذي تؤكده الآية”منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص”. يعني عدد الأنبياء الإجمالي وأمكنة انتشارهم أمور مجهولة. الفكرة العامة: كل هؤلاء وكل هذا التاريخ منذ ابراهيم عليه السلام كان يدور حول التوحيد. يتراجع التوحيد ويتقدم نقيضه ثم يتقدم التوحيد ويتراجع نقيضه. تعجن الثقافات المحلية فكرة التوحيد ودعوات الأنبياء وتعيد تركيبها. القصص الحية والتجارب الدينية للأنبياء تتحول إلى روايات والروايات إلى أساطير وتصبح الأسطورة ديانة جديدة لأن الخلف ينسى السلف وتتطور الأمور، وهذا منطق التاريخ. كل من قرأ بعض الأبحاث حول الأديان مثل مؤلفات ميرسيا الياد مثلا سوف يقف على هذه الحقيقة: أن هناك تشابهات كبيرة بين الديانات الموجودة، لذلك تجد مثلا من يقول عن طقس معين في اليونان إنه كان في بلاد الرافدين ومن يقول عن طقس آخر في إفريقيا إنه جاء من مصر الفرعونية وغير ذلك مما يمكن معرفته من مظانه. فالأديان كانت تنتقل بين الشعوب كما تنتقل السلع اليوم، ومع الوقت لا تعرف من أين جاء هذا الطقس أو هذه العبادة. كل من يقول إن الدين – أعني غير الأديان الثلاثة – كان ينبت في عين المكان كما ينبت الزرع عليه أن يعيد النظر. ومن يقرأ تاريخ العرب قبل الإسلام سوف يفهم هذه المسألة. فقد كان أي شخص خاصة إن كان زعيما حين يزور بلدا جديدا ينبهر ببعض العبادات فيحملها إلى قومه. هكذا دخلت اللات والعزى ومناة وغيرها إلى الجزيرة. تذهب إلى بلد لم تره من قبل فيعجبك تمثال يعبدونه ويحكون لك عن بركاته فتشتري واحدا وتعود مغمورا بالسعادة. هكذا كانت الأمور بكل بساطة ودون تعقيد. لكن الطقوس الدينية عندما كانت تغير مكانها كانت تغير أسلوبها وأسماءها أيضا أحيانا. يحصل مثلا أن يعطي الشخص المستورد إسمه للدين الوافد بعد أن يزيد عليه وينقص، مثل مزدك ومثل زرادوشت. مع الزمن تتحول قصص السابقين، لنقل هنا مثلا أصحاب الجنة وأصحاب الرس وأهل الكهف وغير ذلك، مع الزمن تتحول قصصهم إلى أساطير. تنتقل القصة الحقيقية من مكانها الأصلي إلى بلد آخر فتضاف إليها بهارات. وقد تثير الإعجاب فينقشها شعب معين على حجر. يأتي المؤرخ بعد عشرة آلاف سنة فيجد الحجر تحت الجبل فيقول: هذه القصة ولدت هنا. بالنسبة إليه هو لديه حجر والحجر وثيقة، لكن أنت عندك فقط نص فدعواك باطلة. الحجر يغلب النص. هكذا اختلفت الأديان وتنوعت لكنها كلها خرجت من إناء واحد: التوحيد الإبراهيمي. المسار الطويل الذي قطعه الدين منذ إبراهيم إلى محمد عليهما الصلاة والسلام هو مسار تصحيح التوحيد، إرجاع “الديانات” التي خرجت من معطف الإبراهيمية إلى الأصل. ما يزعم الباحثون الغربيون أنه تأثر للقرآن بالثقافات والديانات السابقة نرد عليه بهذه المنهجية. المثال الأقرب لكي نشرح هو هذا: أغنية غناها مئات المغنين بتنويعات مختلفة حتى نسي الناس صاحب الأغنية الأول. تبقى هناك مسألة في غاية التعقيد: القرآن. إذا لم يكن القرآن بالنسبة لك منهجا لقراءة التاريخ فهذا الكلام لا يعنيك. أما أنا فأرى القرآن منهجا علميا لا نصوصا للتبرك والتلاوة.

اترك رد