بقلم: نعيم بوسلهام
لطالما شغلت العلاقة بين الدين والسلطة حيزاً كبيراً في النقاش العمومي والفكري داخل المجتمعات الإسلامية، حيث ظل السؤال المحوري يتأرجح بين من له الحق في الحديث باسم الدين، ومن يملك سلطة تأويله وتوجيهه في المجال العام. وإذا كانت المجتمعات الغربية، كما أشار عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، قد أسست لفكرة احتكار الدولة للعنف الشرعي كأحد مقومات الدولة الحديثة، فإن المشهد في كثير من الدول الإسلامية يشهد بروز ما يمكن تسميته بـ”نظرية احتكار الدولة لاستعمال الدين”، حيث تعمل السلطات الرسمية على ضبط وتوجيه المجال الديني وفق رؤية مركزية، تُقصي فيها الفاعلين الدينيين خارج مؤسساتها الرسمية.
ففي السياق الإسلامي، كان يُنظر تاريخياً إلى العلماء باعتبارهم حراس الشريعة، ومصدراً للشرعية الأخلاقية والاجتماعية. وقد تُوجه لهم بين الفينة والأخرى انتقادات تتعلق باحتكارهم للحديث في الشأن الديني، وهو ما يعتبره البعض من مظاهر الجمود أو الإقصاء للنقاش العمومي. لكن في ظل ما يسمى بعصر التخصص، ألا يصبح من المفارقات الكبرى أن نعيب على المتخصصين تناولهم لقضايا اختصاصهم، ونفتح الباب بالمقابل أمام غير المؤهلين للخوض في قضايا ذات حساسية عقدية وفكرية؟
إن المشكلة، في جوهرها، ليست في “احتكار العلماء” للدين، بل في غياب الأطر الديمقراطية لتنظيم الحقل الديني، بحيث يكون خاضعاً للتداول والمساءلة والنقد، دون أن يتحول إلى ساحة فوضى أو أداة في يد السلطة.
بالمقابل وفي كثير من النماذج العربية، انتقل دور الدولة من مجرد “رعاية” الشأن الديني، إلى التحكم الكامل فيه عبر آليات متعددة: تعيين خطباء المساجد، توجيه الخطب، حظر بعض الكتب أو الشخصيات الدينية، وتشكيل مجالس علمية ذات طابع رسمي. هذا الشكل من “التأميم” لا يختلف في بنيته العميقة عن “احتكار العنف الشرعي” في نظرية فيبر، حيث تتحول الدولة إلى الجهة الوحيدة المخولة بتحديد ما هو “دين وسطي”، وما هو “تطرف”، بل وما هو “إسلام سياسي” وما هو “إسلام شرعي”.
وإذا كان المعارضون للحركات الإسلامية يتهمونها بـ”تسييس الدين”، فإن ما يحدث في المقابل هو نوع من “تحزيب” الدين الرسمي لصالح السلطة، بحيث يصبح الدين مجرد أداة من أدوات إنتاج الطاعة السياسية، بدلاً من كونه منظومة قيمية تهدف إلى تحقيق العدالة والكرامة الإنسانية.
إن خطورة احتكار الدولة للدين لا تكمن فقط في إقصاء الأصوات المعارضة، بل أيضاً في تجميد الاجتهاد وتجفيف منابع الحيوية الفكرية في المجال الديني. كما أن هذا الاحتكار قد يدفع بعض التيارات إلى البحث عن شرعية بديلة خارج الإطار الرسمي، ما قد يفتح الباب للتطرف والتأويلات المنفلتة.
في المقابل، فإن ترك المجال مفتوحاً دون ضوابط علمية يؤدي بدوره إلى فوضى دينية، حيث يصبح كل من امتلك حساباً على وسائل التواصل، أو راكماً قدراً من الشعبية، “مفتياً” يُستفتى و”عالماً” يُقتدى به، وهو ما يعيدنا إلى جدلية: من يحرس الدين من الجهالة؟ ومن يحرسه من التوظيف السلطوي؟
يبذو اليوم أن الحاجة ماسة إلى تصور جديد للمجال الديني، يقوم على مبدأ التخصص من جهة، ومبدأ استقلال الحقل الديني عن السلطة التنفيذية من جهة أخرى. ولعل الحل يكمن في صيغة مدنية عقلانية، تجعل من الدين مجالاً للنقاش العام، دون أن يتحول إلى أداة في يد السلطة، أو مطية في يد الجهلة والباحثين عن النفوذ.
إن تحرير الدين من قبضة الدولة لا يعني فصله عن الحياة، بل تحريره من الاستخدام السلطوي الذي يحوله إلى أداة تطويع، بدلاً من أن يكون منبعاً للوعي والتحرر.