صوف الصين العظيم

بقلم: د. المصطفى كرين

أول ما يتبادر للذهن حين قراءة هذا العنوان، هو “سور الصين العظيم”، ذلك السور الذي يمتد على طول 21196 كيلومتر إجمالا، وهي مسافة تساوي تقريبا المسافة الفاصلة بين بكين وواشنطن ذهابا وإيابا. حدث ذلك في زمن الحروب القديمة والقتال بالأسلحة التقليدية البيضاء والمهارات الجسمانية، وتطلب استكماله ألفي سنة تقريبا، وكانت الصين حينها تريد إغلاق الباب على نفسها والانعزال عن العالم، أما اليوم، زمنَ الانفتاح في حدوده القصوى فإن السور الذي تبنيه الصين هو من نوع “الأساور الناعمة” غير المرئية، التي يكون فيها القتال بالمهارات العقلية والذهنية أولا، أسوار من النعومة بحيث يمكن مقارنتها بالصوف، ولكن نعومتها الظاهرة إنما تخفي صلابة وقوة أعتى من سور الصين الحجري العظيم، ومن سلاستها ونعومتها فإنه من الصعب جدا عليك، إدراك هذه الأسوار الصوفية التي تبنيها الصين قبل أن تجد نفسك محاطا بها و”منسوجا” داخلها كخيط في قطعة قماش شاسعة تتمدد باستمرار ولن تتوقف حتى تغطي كامل وجه الأرض. تلك هي استراتيجية الصين الجديدة التي أصبح من العسير جدا الإفلات منها حتى بالنسبة لدولة جبارة عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية التي لن نبالغ إن قلنا أنها باتت محاصرة عمليا من طرف الصين، رغم أن هذه الأخيرة تستمر في إعطاء الانطباع بعدم وجود ذلك الحصار، ربما في انتظار اكتماله تماما.

ولتبسيط ما نحن بصدده سأفصل بعض الأسوار، عفوا الأحداث، الأخيرة التي تمر أمامنا دون أن نلقي لها بالا.

السور الأول: لا شك أن كل مهتم ذي بال قد انتبه لحملة الولايات المتحدة العنيفة، المتعلقة بالمسلمين الإيغور وتباكي إعلامها الرسمي داخل وخارج أمريكا على مصيرهم، في الوقت الذي لم تحرك أدنى ساكن للتنديد بقانون الجنسية الهندي رغم عنصريته الواضحة ضد المسلمين، ولكن ما لم يتفطن له الكثيرون هو توقيت ومبررات هذه الحملة التي من الواضح أنها لا علاقة لها بحقوق الإنسان، بل تبتغي إحراج أطراف أخرى وفي مقدمتها أوروبا بالضبط، لماذا؟ لأن هذه الأخيرة، بعدما أحست تنكر أمريكا لها خلال السنوات الفارطة، سارعت لفتح حوار استراتيجي مع الصين منذ سنتين، تم تتويجه بإبرام ما سمي “الاتفاقية الشاملة للاستثمارات بين الاتحاد الأوروبي والصين” بعد حوار شاق قادته المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، التي تثبت يوما بعد يوم أنها لم تعد تثق في أمريكا بل أصبحت أكثر ميلا لمحور الصين-روسيا-تركيا على حساب العلاقات التاريخية والكلاسيكية العبر أطلسية، والأهم في كل هذا هو أن هذا الاتفاق الصيني-الأوروبي تم دون التشاور مع الولايات المتحدة، وهو ما جعل الإدارة الأمريكية تنتبه لخطورة الاتفاق وتحاول تدارك الأمر مؤخرا عبر التقارب الذي يقوده بايدن مع الاتحاد الأوروبي، والذي لا يبدو أي أنه قد يغير الكثير.

السور الثاني: يتعلق باتفاق “الشراكة الاقتصادية الجهوية الشاملة” التي وقعتها الصين مع أربع عشرة دولة في المحيط الهادي وجنوب شرق آسيا وتشمل دول منظمة الآسيان ASEAN التي تعني كلا من بروناي وكمبوديا وإندونيسيا وماليزيا واللاوس وسنغافورة والفلبين وميانمار وتايلاند وفيتنام، إضافة إلى أربعة دول أخرى هي اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلاندا، ومعلوم أن من بين هذه الدول هناك الكثير من المعاقل التقليدية للنفوذ الأمريكي وتمثل الاتفاقية أكبر منطقة للتبادل الحر في العالم وتحتوي أكثر من ثلاثين بالمائة من حجم التجارة العالمية.

السور الثالث: يتعلق بالتفاف الصين بذكاء بالغ على المشروع الأمريكي المتعلق بمنطقة مينا MENA أي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بحيث أنه بينما تحصر الولايات المتحدة المنطقة في الرقعة الممتدة بين الخليج العربي والمغرب، تقوم كل من الصين وروسيا بالترويج لكون المنطقة يجب أن تشمل كذلك كلا من باكستان وإيران وكازاخستان وبعض دول آسيا الوسطى والجنوبية تحت اسم “الشرق الأوسط الكبير”، وهذا التصنيف يوفر للتحالف الصيني الروسي مدخلا مريحا إلى المنطقة عبر بوابة باكستان التي تتوفر على علاقات استراتيجية وطيدة جدا مع بيكين ترجمتها أخيرا عبر ما يسمى “الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني” الذي سيكلف أكثر من 62 مليار دولار وهو برنامج تنموي جبار، شامل ومتكامل من البنيات التحتية والمناطق التبادل الحر وغيرها، كما يشمل مفهوم الشرق الأوسط الكبير كلا من إيران والمناطق الآسيوية بما في ذلك تركيا التي ترتبط بمشاريع استراتيجية كبيرة مع روسيا، وإذا نجح المحور الصيني- الروسي في توسيع منطقة مينا فسيعني ذلك سحب البساط تماما ونهائيا من أمريكا فيما يتعلق بمشروعها في هذه الجهة من العالم السور الرابع : يتعلق بالانتشار الصيني الواسع والمكثف في الجوار الأمريكي أي في أمريكا اللاتينية عبر شراكات استراتيجية بدأت باتفاقيات ثنائية، ليتضاعف حجم التبادل بين الصين وأمريكا اللاتينية عشر مرات في عقد من الزمن، حتى أن جزءً كبيرا من الاستثمارات والتجارب المتعلقة بكوفية التاسع عشر تمت في تلك المنطقة البعيدة عن الصين المجاورة لأمريكا.

السقف: بعد هذه الأسوار الأربعة التي بنتها الصين حول أمريكا، وفي ظل هذا الواقع يمكننا أن نتفهم بسهولة بالغة القفزة التي قامت بها أمريكا في الهواء والتي تتعلق بتوجهها المتأخر نوعا ما نحو إفريقيا (بعد استقالة أوروبا المستعمر القديم الذي أصبح يظهر الكثير من العجز في كل المجالات) لإيجاد متنفس استراتيجي يمكنها من الهروب من الكماشة الصينية- الروسية التي تكاد تخنق واشنطن رغم محاولات الإعلام الترويج لغير هذا عبر الدفع بالقوة العسكرية الأمريكية كعامل تفوق لتكريس التصنيف الريادي لأمريكا عالميا، ولكن أمريكا قد ترتطم بالسقف الذي تبنيه الصين بتركيز كبير في سماء القارة عبر الانتشار المكثف في إفريقيا، وفق استراتيجية التعاون الاقتصادي والعلمي ومعادلات رابح-رابح وعبر التعبير عن الاستعداد لتطوير القارة ونقل التكنولوجيا وغيرها…

كل هذا يصعّب كثيرا من مهمة أمريكا وإدارة بايدن لإيجاد موطئ قدم ثابتة في قارة سئم أهلها الإخضاع بالقوة، ولن يسعف ذلك أمريكا للعودة في لعبة الشطرنج هذه، التي يبدو أن أصولها آسيوية أيضا قبل أن يعرف عنها العالم شيئا.

ونأتي للسؤال الأهم بالنسبة لنا: ما موقع المغرب من كل هذه التحولات؟ أو كيف يمكن للمغرب التوفيق بين الشراكة الموسعة مع الاتحاد الأوروبي والشراكة الاستراتيجية مع محور الصين-روسيا والشراكة العسكرية ومشاريع الشراكة الاقتصادية مع الولايات المتحدة مع الاحتفاظ بامتداداته الأفريقية ومكانته في منطقة مينا؟ قد يبدو من الوهلة الأولى أن المغرب قد أصبح محاصرا وسط تضارب غير مسبوق للاستراتيجيات والمصالح، ولكن الحقيقة هي أن المغرب من خلال كل ما سبق واعتبارا لموقعه الجغرافي سياسيا واقتصاديا، ومقوماته الثقافية وتنوع علاقاته أفقيا وعموديا، يكون قد حصل على فرصة تاريخية استثنائية للتحول إلى نقطة التركيز الأهم في الحوار الجيوستراتيجي المستقبلي الضروري والذي لا بديل عنه سوى المواجهة، لقد أضحى بإمكان المغرب التحول إلى أهم وسيط في العلاقات الدولية للعالم الذي يتشكل أمام أعيننا اليوم، ولذلك يستوجب علينا من الآن فصاعدا التفكير في بنيات ومؤسسات وكفاءات وميكانيزمات ونظم علائقية من شأنها جعل فن الوساطة بين مختلف الفاعلين الدوليين مصدر القوة الأبرز والتحول بدوره إلى فاعل لا استغناء عنه في تدبير النزاعات التي لاشك أنها ستتولد عن تضارب المصالح والمقاربات بين القوى الدولية، بما يجعل المملكة أهم مستثمر في السلم والتعاون.

اترك رد