نقد قول أحمد عصيد في السببية وعلاقتها بالعلوم عند علماء المسلمين
بقلم: الدكتور عبدالنور بزا
كتب الأستاذ أحمد عصيد مقالة على صفحته الفايسبوكية بعنوان: إنكار ” السببية ” من عوامل تراجع العلوم عند المسلمين. جاء فيها؛ أن القول بالسببية هو أساس البحث العلمي التجريبي والتقدم فيه إلى أبعد الحدود، واستشهد لذلك بما قرره ابن رشد الحفيد في دفاعه المستميت عن قانون السببية. وحمل المسؤولية لأبي حامد الغزالي بالدرجة الأولى نظرا لإنكاره لذلك القانون ولابن تيمية أيضا؛ وللعقل الفقهي عموما؛ فيما آلت إليه العلوم التجريبية من هندسة وطب وفلك وغيرها من تراجع في بلدان المسلمين من ذلك الزمان إلى اليوم. مما انعكس على التيار العام في المجتمع الإسلامي، وأدى إلى إعطاء الأولوية المطلقة للتفسير الغيبي على البحث العلمي والتفكير العقلاني، كما أدى من ضمن ما أدى إليه إلى تبخيس العقل واعتباره قاصرا وضعيفا وغير قادر بذاته وبقدراته الطبيعية الخاصة على اكتشاف المعارف الجديدة.!!
وعليه؛ فإلى أي حد يمكن التسليم بدعوى هذه الخلاصة ؟ وهل كان العقل الفلسفي مناقضا ورافضا للعقلي الفقهي أو أنهما وجهان لعقل واحد هو العقل التكاملي لدى أهل العلم في حضارتنا قاطبة ؟
وهل كان عقل الغزالي وابن تيمية والعقل الفقهي عموما عائقا معرفيا شكل السبب الحقيقي أمام تقدم العلوم وتطورها في حضارتنا الإسلامية أو هي مجر اتهامات دون دليل ؟
ذلك ما نتعرفه في الفقرات التالية:
إذا استقرأنا الفكر الإسلامي وجدنا موضوع ” السببية ” قد مثل بالفعل إشكالية معرفية مركزية؛ شغلت العقل الفقهي والفلسفي على حد سواء، لكن دون أن يصل الاختلاف المعرفي؛ بين هذين العقلين ؛ إلى حد القطيعة الإبستمولوجية التي تعني: إما أن تكون فقيها نصيا ، وإما أن تكون فيلسوفا عقليا. وأما أن تجمع بينهما في عقل واحد فمستحيل!! كما هو المستفاد من دعوى ذ. عصيد. وذلك لسبب بسيط؛ وهو أن العقل الإسلامي عقل تكاملي بطبعه لا إشكال لديه في الجمع بين الفقه والفلسة والمنطق والعلوم التجريبية دونما شعور بالانفصام أو التناقض المعرفي بين هذه العلوم كلها. ودليل هذا الملحظ ما أنتجه هذا العقل الموسوعي من علوم متنوعة؛ يحسبها الجاهل من الجمع بين المتناقضات. وهي بخلاف ذلك في واقع الأمر.
فابن رشد الحفيد لم يكن فيلسوفا فقط؛ بل كان فقيها مالكيا مجتهدا ؛ كما في كتابه المميز بداية المجتهد ونهاية المقتصد. وفيلسوفا ناقدا كما في كتبه: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال. الذي جمع فيه بين مبادئ الحكمة وأصول الشريعة نفيا للتعارض بينهما في طلب الحق والسعي إليه كل بمنهجه الموافق له. والكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة ؛ الذي انتقد فيه المتكلمين عموما والأشاعرة خصوصا. وتهافت التهافت الذي رد به على تهافت الفلاسفة للغزالي. وطبيبا ماهرا كما في كتابه: الكليات في الطب… بحيث كان الناس يفزعون إلى فتياه في الطب كما يفزعون إلى فتياه في الفقه …إلخ
وقل مثل ذلك عن أبي حامد الغزالي الذي جمع بين النظر المنطقي كما في كتابه: معيار العلم في المنطق. و النظر الفلسفي كما في كتابيه: مقاصد الفلاسفة وتهافت الفلاسفة ، والنظر الفقهي الأصولي كما في كتابه: المستصفى في أصول الفقه. والنظر التربوي التعليمي الفقهي الجامع في كتابه: إحياء علوم الدين. فضلا عن كونه مؤسس منهج الشك العقلي في كتابه: المنقد من الضلال. والذي قسم فيه علوم الفلاسفة إلى:” ستة أقسام رياضية، ومنطقية، وطبيعية، وإلهية، وسياسية، وخلقية.”[1] وحدد فيه موقفه من هذه العلوم كلها. وميز فيها بين العلوم البرهانية والعلوم التخمينية، فأشاد بما هو علمي برهاني، كالرياضيات والهندسة والفلك والمنطق . وانتقد ما هو خيالي تخميني غير منطقي كالفلسفة المثالية التي تهتم بالإلهيات وهي التي فيها أكثر أغاليطهم واختلافاتهم.
وكذلك ابن تيمية الذي أنتج من المعارف ما شمل حقل النقد المنطقي الفلسفي ؛ كما في كتابه الموسوعي: درء تعارض العقل والنقل، وكتابه نقض المنطق، وحقل المراجعة والبناء التاريخي في كتابه: منهاج السنة النبوية في نقد كلام الشيعة والقدرية : وحقل الفقه وأصوله كما في كتابه مجموع الفتاوى وغير ذلك من الحقول المعرفية النقدية التجديدية.
وما قلناه عن هؤلاء الأعلام الثلاثة ينطبق على جميع علمائنا من مختلف المدارس؛ الكلامية والفلسفية والفقهية والعلمية التجريبية البحثة؛ فكلهم كانوا موسوعيين جامعين بين علوم العقل والنقل بشكل لا مثيل له ودونما إحساس بالانفصام المعرفي أو التناقض العلمي مع ذاتهم. ومن راجع سيرهم وقف من هذا الملحظ على علم. وكل هذا يعلمه ذ. عصيد لكنه يتجاهله، ويقول بخلافه عن سبق إصرار وتعمد، وهو سلوك لا يمت إلى البحث العلمي الموضوعي بصلة !!
ويكفي في بيان موقف الغزالي الإيجابي من العلوم العقلية -التجريبية و النظرية- بالخصوص ما نص عليه أعلاه في سياق تقسيمه لعلوم الفلسفة فيما عبارته:” أما الرياضية: فتتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئة العالم/ الفلك، وليس يتعلق منها شيء بالأمور الدينية نفياً وإثباتاً، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدتهم بعد فهمها ومعرفتها … فكلام الأوائل في الرياضيات برهاني وفي الإلهيات تخميني … ولا آفة في هذه العلوم بل الآفة من صديق للإسلام جاهل، ظن أن الدين ينبغي أن ينصر بإنكار كل علم منسوب إليهم. فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف، وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع ؛ فلما قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع، لم يشك في برهانه ، ولكن اعتقد أن الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع، فازداد للفلسفة حباً وللإسلام بغضاً، ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات، ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية …
وليس في هذا ما يوجب إنكار علم الحساب المعروف بمسير الشمس والقمر، واجتماعهما أو مقابلهما على وجه مخصوص…
وأما المنطقيات: فلا يتعلق شيء منها بالدين نفياً وإثباتاً، بل هي النظر في طرق الأدلة والمقاييس، وشروط مقدمات البرهان، وكيفية تركيبها، وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه. وأن العلم إما تصور وسبيل معرفته الحد، وإما تصديق وسبيل معرفته البرهان، وليس في هذا ما ينبغي أن ينكر.
وأما الإلهيات : ففيها أكثر أغاليطهم ، فما قدروا على الوفاء بالبراهين على ما شرطوه في المنطق ، ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيها .” [2] وهو مما وافقه فيه ابن رشد فيما نصه :” ولذلك يظن أن الفلاسفة في غاية الضعف في هذه العلوم ، ولذلك يحق ما يقوله أبو حامد في غير ما موضع من كتبه : إن علومهم الإلهية هي ظنية .”[3]
فكيف يعتبر الغزالي عائقا أمام تقدم العلوم التجريبية في نظر ذ عصيد وهو يصفها بأنها “علوم برهانية لا تقبل الجحود “ وأنها من “ العلوم التي لا ضرر فيها ؛ بل الضرر ممن يظن أن نصرة الدين لا تتم إلا بإنكارها. وهي ليست خلاف الشرع ؛بل هي نتيجة للبرهان القاطع بلا شك ، وأعظم جناية على الدين أن يظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم… وليس هناك ما يوجب إنكار علم الحساب المعروف بمسير الشمس والقمر ، واجتماعهما أو مقابلهما على وجه مخصوص …
وأما المنطقيات : فلا يتعلق شيء منها بالدين نفياً وإثباتاً ، بل هي النظر في طرق الأدلة والمقاييس ، وشروط مقدمات البرهان ، وكيفية تركيبها ، وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه … وليس في هذا ما ينبغي أن ينكر .” كما سلف عنه.
وللعلم فإن الغزالي ما فتئ يؤكد على أن ” فرض الكفاية هو علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب ؛ إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان. وكالحساب ؛ فإنه ضروري في المعاملات … وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد ، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين.”[4]
وجاء عنه في سياق آخر:” كم من بلدة ليس فيها طبيب … والبلد مشحون من الفقهاء بمن يشتغل بالفتوى والجواب عن الوقائع ؛فليت شعري كيف يرخص فقهاء الدين في الاشتغال بفرض كفاية قد قام به جماعة وإهمال ما لا قائم به ؟!!
هل لهذا سبب إلا أن الطب ليس يتيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة والتقدم به على الأفران والتسلط به على الأعداء. هيهات هيهات قد اندرس علم الدين بتلبيس العلماء السوء.”[5] وأما ” الطب فإن الحاجة ماسة إليه”[6]
” ومثل علم الحساب وعلم النجوم فإن علم الحساب أشرف لوثاقة أدلته وقوتها ، وإن نسب الحساب إلى الطب ؛ كان الطب أشرف باعتبار ثمرته. والحساب أشرف باعتبار أدلته. وملاحظة الثمرة أولى ولذلك كان الطب أشرف.”[7]
إن من يقول هذا الكلام لا يمكن أن يكون إلا مناصرا ومشجعا ومحفزا على البحث العلمي التجريبي ، وليس من الإنصاف العلمي أن يقف الباحث الموضوعي على رأي أبي حامد وموقفه الإيجابي المتقدم من العلوم العقلية والتجربية ولا يعترف له بذلك بدلا من أن ينسبه إلى ما لا دليل عليه زورا وبهتانا.
بل وأكثر من هذا فالغزالي هو أول من انتقد الفقهاء الذين اهتموا بالفقه أكثر من اهتمامهم بالعلوم التجريبية المفيدة للبشرية. وفي مقدمتها الرياضيات والطب والهندسة، فكيف يكون هو السبب في عرقلة التقدم العلمي التجريبي من عهده إلى اليوم!! بدعوى أنه أنكر القول بقانون السببية بمعناه الدهري الذي ينفي التدخل الإلهي في سير نظام العالم بكل ما فيه ومن فيه.!! وليس بمعناه الإيماني الذي ما فتئ الغزالي يبدئ ويعيد في التأكيد عليه، وهو ما قال به ابن رشد تحديدا بطريقته الخاصة.ولذلك ” أن رد المذهب قبل فهمه والإطلاع على كنهه رمي في عماية .”[8] وفيما يلي ما يقطع بعماية ذ. عصيد في قضية السببية تحديدا.
قال الغزالي :” لا يقف على فساد نوع من العلوم ، من لا يقف على منتهى ذلك العلم .” [9] مما يعني أنه لم يكن يتكلم من فراغ ؛ وإنما كان محيطا بجميع ما ينظر فيه من قضايا علمية أو فلسفية ، وفي مقدمتها قضية السببية . فقد بدأ بتعريفها كما هي عند الفلاسفة الدهريين بما يفيد ” الاقتران المشاهد في الوجود بين الأسباب والمسببات ؛ أنه اقتران تلازم بالضرورة. فليس في المقدور ولا في الإمكان إيجاد السبب دون المسبب ، ولا وجود المسبب دون السبب .”[10]
فهذه السببية الدهرية بما تعنيه من تأثير ذاتي حتمي ضروري لا علاقة له بالتدبير الإلهي بالمرة ؛ هي مناط النقد الذي وجهه لها أبو حامد في أصلها جملتها ؛ إذ قال :” وأصل جملتها : أن تعلم أن الطبيعة مسخرة لله تعالى ، لا تعمل بنفسها ، بل هي مستعملة من جهة فاطرها. والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات بأمره لا فعل لشيء منها بذاته عن ذاته .” [11]
والسبب في هذا النقد؛ ما يترتب عن القول بالتأثير السببي الذاتي من محاذير عقدية ممثلة في نفي المعجزات والحد من القدرة الإلهية على حد قول أبي حامد :” فلزم الخوض في هذه المسألة لإثبات المعجزات ، ولأمر آخر وهو نصرة ما أطبق عليه المسلمون من أن الله تعالى قادر على كل شيء .”[12]
وحاصل ما توجه به الغزالي من نقد للسببية الطبيعية الذاتية هو أنها لا تعدو أن تكون مجرد جماد؛ ومن المعلوم عقلا أن الجماد لا فعل له ولا تأثير ، كما يوضح ذلك بمثاله المفضل وهو النار والقطن فيما نصه :” فأما النار وهي جماد ؛ فلا فعل لها ؛ بل الفاعل الحقيقي والوحيد هو الله الذي يخلق الاحتراق كل مرة عند ملامسة النار للقطن وغيرهما من الأسباب والمسببات .” وهو ما يقطع بأن الغزالي لم ينكر السببية في حد ذاتها باعتبارها من القوانين التي أودعها الله في هذا الكون بما فيه ومن فيه ، وإنما أنكر السببية بمعناه المادي الدهري الذي يسند التأثير إلى العلل الطبيعية باستقلال تام عن الإرادة الإلهية.
والتعليل السببي بهذا المفهوم ، لم يقل به – حسب ابن رشد – إلا ” الدهريون الذين ينسبون كلَّ ما يظهر هاهنا (في العالم المادي) مما ليس له سبب ظاهر ، إلى الحار والبارد والرطب واليابس ؛”[13]أي ؛ إلى العناصر الطبيعية. ومن قال من الدهريين/ الماديين بالتأثير الذاتي للعلل الطبيعية؛ فـ” قد عنيت الفلاسفة بالرد عليهم “؛ كما قال ابن رشد.[14] وهو مذهب بعض الْمُحْدَثِين القائلين بـ”الوجود الذاتي للطبيعة وفاعليتها الخاصة بها ،”[15] لاعتقادهم ” بأن الله لا يتدخل في شؤون العالم .”[16]ولا يبعد أن يكون ذ. عصيد منهم.
وعليه ؛ فقانون التعليل السببي المادي الدهري المنفصل عن التدبير الإلهي ، هو غير قانون التعليل السببي الإيماني الذي أودعه الباري تعالى في مجموع الظواهرَ الكونيةَ ، وبنى عليه الأحكام الشرعية ، وأجمع عليه جميع العقلاء من المسلمين وغيرهم. والغزالي في مقدمتهم.
ومن راجع أقوال ابن رشد في الموضوع تأكدت لديه وجاهة ما ذهب إليه الغزالي قبله ؛ أعني أن أبا الوليد ما فتئ يبدئ ويعيد في التنصيص على ضرورة إرجاع كل القوانين الكونية إلى الإرادة الإلهية المطلقة عن أي قيد كان. وهو يدافع عن معقولية ” قانون التعليل السببي “؛ ومما قرره في هذا السياق أن لا وجود ولا فاعلية لهذا القانون إلا بإذن الله ، وذلك فيما نصه :” وأما الذي قاد المتكلمين من الأشعرية إلى هذا القول ؛ الهروب من القول بفعل القوى الطبيعية التي ركبها الله في الموجودات التي ههنا كما ركب فيها النفوس ، وغير ذلك من الأسباب المؤثرة ؛ فهربوا من القول : بأن ههنا أسبابا فاعلة غير الله.
وهيهات لا فاعل ههنا إلا الله ؛ إذ كان مخترع الأسباب ، وكونها أسباباً مؤثرة هو بإذنه وحفظه لوجودها … إذ كان وجودها إنما هو به وهو الذي صيَّرها موجودة أسبابا ، بل هو الذي يحفظ وجودها في كونها فاعلة ، ويحفظ مفعولاتها بعد فعلها ، ويخترع جواهرها عند اقتران الأسباب بها. وكذلك يحفظها هو في نفسها ، ولولا الحفظ الإلهي لها لما وَجَدْتَ زماناً مشاراً إليه ؛ أعني : لما وجدت في أقل زمان يمكن أن يدرك أنه زمان. وأن الله تعالى هو المخترع لجواهر جميع الأشياء التي تقترن بها أسبابها التي جرت العادة أن يقال إنها أسباب لها . فهذا الوجه المفهوم من أنه لا فاعل إلا الله هو مفهوم يشهد له الحس والعقل والشرع … وأن ما يضاف إليها من فعل فتسمى فاعلة؛ فليس ذلك إلا مجازاً، وأما الفاعل الحقيقي فهو ليس إلا الله.”[17]وهو ما يقطع ببطلان ” التعليل الدهري المادي” المنافي ” للتعليل السببي الإيماني” الذي قال به الغزالي وابن رشد وغيرهما من العلماء، ودافعوا عنه بقوة في وجه الدهريين الذين لا يؤمنون بخالقية الله لقانون السببية وغيره من القوانين الكونية.[18]
وعلى هذا؛ فإنّ التعليل الدهري المادي المقطوع الصلة بالله، هو وحده الذي أجمع علماؤنا على رفضه بالاتفاق قديماً وحديثاً، وما سواه لم ينكره أحد من علماء الإسلام. وبهذا يظهر أن كل ما نسبه ذ. عصيد في مقالته عن السببية للغزالي وابن تيمية وغيرهما من الفقهاء أقل ما يقال عنه أنه لا يمت إلى البحث العلمي الموضوعي بصلة. وهو ما أثبتناه بالدليل القاطع ببطلان ما زعمه من دعاوى بغير بينه، ومن المعلوم أن الدعوى من غير بينة لا تصح. وأن ” الدعوى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء.”[19]كما في قوله:” أن من حاول الاهتمام بهذه العلوم من الفقهاء لم يوفقوا ولم يقدموا فيها شيئا يذكر، كالغزالي وابن تيمية ، بل إن ابن تيمية وإن قال بالسببية خلافا لباقي الفقهاء؛ فإنه لم يستطع أن يبني عليها أي شيء بسبب نسقه الفقهي العام”. وقد نسي أو تناسى أن ابن تيمية قد بنى عليها صرحا من العلم لم يأت الزمان بمثله في عصره، بل وما زال فيه من العلم النافع ما يفيد في عصرنا اليوم. ويكفي مراجعة ما دونه في موسوعاته الفقهية:” مجموع الفتاوى ” في ست وثلاثين مجلدا. وموسوعته الفكرية الفلسفية:” موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول ” في عشر مجلدات. وموسوعته التاريخية النقدية ” منهاج السنة النبوية …” للتأكد من بطلان ما يدعيه ذ. عصيد. وأنه هو الذي لم يأت بشيء يذكر لا في مجال العلوم التجريبية ولا في مجال المعرفة النظرية العقلية الموضوعية أيضا، وهو يوهم القراء وكأنه العالم العبقري الذين جاء بما يبهر العقول في مختلف التخصصات المعرفية ؟!!
والغريب كيف يقول أيضا: ” إن المعرفة العلمية حسب ابن رشد مستحيلة بدون مبدأ السببية، ومن جحد أي أنكر هذا المبدأ لا يمكن له البحث علميا في الظواهر وفهمها فهما علميا حكيما، وإبطال القول بالسببية هو إبطال لـ ” الحكمة الإلهية ” و لـ ” الناموس الرباني “،
بينما رفض الفقهاء هذا المنطق معتبرين العلم هو معرفة ما في النصوص الدينية والسعي إلى تطبيقها، وقائلين بـ”جواز” حدوث الظواهر لا بضرورتها ، منتصرين للمعجزات وخوارق العادة على نظام الكون المحكم. ” ولست أدري من هم هؤلاء الفقهاء الذين يحكي عنهم ذ. عصيد هذه الغرائب التي لا وجود لها إلا في مخيلته؛ وكأن ابن رشد لم يكن فقيها مثل ما كان فيلسوفا وطبيبا ؟!!
ويكفي في الرد على ما جاء به من غرائب قول أبي حامد الغزالي:” ولا تفهمن من غلونا في الثناء على علم الآخرة تهجين هذه العلوم فالمتكفلون بالعلوم كالمتكفلين بالثغور والمرابطين بها والغزاة المجاهدين في سبيل الله فمنهم المقاتل ومنهم الردء ومنهم الذي يسقيهم الماء ومنهم الذي يحفظ دوابهم ويتعهدهم ولا ينفك أحد منهم عن أجر إذا كان قصده إعلاء كلمة الله تعالى دون حيازة الغنائم فكذلك العلماء قال اللَّهُ تَعَالَى” يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والذين أوتوا العلم درجات.”وقال تعالى ” هم درجات عند الله ” والفضيلة نسبية ” [20 ]
إن جميع الفقهاء ما تنكروا لمنطق السببية الإلهية وما انتصروا للتفسير الغيبي للظواهر الكونية ؟ بل كل ما فعلوه بالاتفاق ؛ أنهم رفضوا مبدأ السببية الدهرية المقطوع الصلة بالإرادة الإلهية رفضا مطلقا بلا خلاف. وشتان بينهما لمن تأملهما بعلم. وفي هذا القدر كفاية بيان ومراجعة لما زعمه ذ عصيد في مقالته تلك.
[1]– المنقذ من الضلال. أبو حامد الغزالي. تحقيق، عبد الحليم محمود. دار الكتب الحديثة، مصر. د ت. ص 138.
[2]– المنقذ من الضلال. ص 138. 143.
[3] ـ تهافت التهافت، 1/348، 402
[4]– إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، دار المعرفة، بيروت. د ط ولا ت، 1/16.
[5]– إحياء علوم الدين، 1/21.
[6]– إحياء علوم الدين، 1/30.
[7]– إحياء علوم الدين، 1/53.
[8]– المنقذ من الضلال. ص 126.
[9]– المنقذ من الضلال. ص 126.
[10]– تهافت الفلاسفة. الغزالي، تحقيق سليمان دنيا. دار المعارف. مصر. ط7. د ت. ص 238.
[11]– المنقذ من الضلال. ص 138. 143.
[12]– تهافت الفلاسفة. الغزالي، تحقيق سليمان دنيا. دار المعارف. مصر. ط7. د ت. ص 238.
[13]– ابن رشد، محمد بن أحمد. تهافت التهافت، تحقيق: سليمان دنيا، القاهرة: دار المعارف، د.ت، ج2، ص 788.
[14] ابن رشد. تهافت التهافت، مرجع سابق، ج2، ص788.
[15]– طيب، تيزيني. مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، دمشق: دار دمشق، 1981م، ص 378 ، 379، 380.
[16]– حسين، مروة. النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، بيروت: دار الفارابي، 1985م، ج1، ص155.
[17]– ابن رشد. الكشف عن مناهج الأدلة، مرجع سابق، ص105-106-125.
[18]– لأخذ فكرة واضحة عن رأي ابن رشد في السببية يمكن مراجعة كتابيه:
– ابن رشد. الكشف عن مناهج الأدلة، مرجع سابق، ص102- 103- 104- 105-106 – 117- 127- 128- 136- 137- 138 وغيرها.
– ابن رشد. تهافت التهافت، مرجع سابق، ج2، ص775-781- 783- 784- 785 – 786- 788- 790- 791- 806 – 807 وغيرها.
[19]– الشاطبي. الموافقات. مرجع سابق. ج3، ص 295
[20] – إحياء علوم الدين. 1 / 53