سيرة بطل مسكين

بقلم: نوفل مهداوي

أنا بطل هذه الحكاية، ومن نقطة الصفر سأرويها لكم؛ ليس فصاحة مني أو حبا في التفاصيل ولكن كاتبي لم يكتب شيئا عني بعد، مازلت كلاشيء تتقاذفني أمواج الخيال في بحر لا شاطئ له، ليس لي اسم أو بطاقه تعريف، أو حتى خدا ألطم عليه سوء حظي. أجلس في خاطر كاتبي المزدحم بالهموم والتجارب الفاشلة، الأولوية صارت للقمة العيش، والأسبقية لمتطلبات الواقع التي لا تنتهي، أما أنا فمازلت أنتظر عفوا من فوق أو ثوره من الأسفل. هنا أحسد كاتبي، فهو مثلكم أنتم بني البشر؛ دائمي الحيرة بين الأمس والغد ولكن على الأقل لكم يوم تستنشقون تفاصيله ولا تكترثون.

للأسف كاتبي لم يعد كما كان، فقد أصبح يعاني من إمساك فكري مزمن، أظن السبب هو درج مكتبه المتخم بالقصص والروايات التي لم يقرأها ولم يسمع بها أحد، كنت دائما أحد أبطالها الرئيسيين، سافرت وناضلت وأحببت وقاتلت في سبيل ما أحب، كان بمجرد ما يمسك قلمه أفتح عيني مباشرة على هول من الأحداث وسيل من البطولات، أما الآن… فها هو يجلس كئيبا في ركن المقهى، يحك لحيته وكأنها فانوس ثم ينفخ دخان سيجارته متطلعا نحو المارد، أحيانا يفكر في الكتابة وأحيانا يفكر في جدواها، فقد اقتنع بأن أبطال القصص هم كمبرس الواقع؛ الشجاع يتلقى سهما طائشا في بداية المعركة دون أن يُذكر اسمه، والشريف العصامي في الحقيقه تُدهس بضاعته في مطاردة بوليسية واقعية بين مجرم فاسد وشرطي أكثر فسادا منه.

و لكن؛ أليس من حق البشر فسحة من هذا الواقع المرير ولو حتى افتراضا؟ أليس لهذا خُلِق أبطال القصص؟ ثم لماذا استدعيتني وأنت فاقد للشهية؟ كان عليك أن ترسم سقفا يأويك أنت وخيالك قبل أن تقع معه في الخطيئة، فأبناء الحلال لا يتركون أبناء أفكارهم هكذا في العراء، لا أعرف حتى لم أتكلم معكم بصفة المذكر، ماذا إن أراد كاتبي العكس؟ يا ويلي لا أريد هذا، عذرا للقوارير أحترمكن وأقدركن ولكِن لكُنّ عالم من الأسرار أهابه، ثم ماذا إن صرت في هذه القصة متمردة أو صاحبة خبرة؟ فبعض الكتاب لا يستحضرون النساء إلا لصب مكبوتاتهم بحجة أدبية أنيقة، تماما كمن يتحرش في الحافلات مستغلا ظروف الازدحام.

أخيرا ظهرت ابتسامة على محيا كاتبي، دائما ما كانت تسبق لحظة ولادتي بقليل، لكنها هذه المرة ابتسامة بلا شغف، بنظرات شارذة وحركات تائهة، أطفأ سيجارته وارتشف ما تبقى من فنجانه ثم شرع في الكتابة.

فتحت عيني من ظلام الوحدة إلى ظلام الليل، أقف على حافة جسر شاهق، من تحتي نهر عميق لا أسمع صوته ولا أرى باطنه، قلبي يخفق بشدة، رعشة خوف بأطرافي وأسفل بطني، أنظر للأسفل وأتردد في القفز؛ مهلا… إياك أن يكون الأمر كما فهمت! سحقا هو فعلا كما فهمت، بأي حق تقتلني لحظة ولادتي أيها الوغد؟ لم لا تفعلها أنت إن كان هذا هو حلك؟ أي قصة هذه التي ينتحر بطلها في البداية؟ وأي بطل هذا من لا يتقن فن السباحة؟ بصفتي بطل هذه الحكاية ونيابة عن كاتبي أتقدم لكم ببالغ الاعتذار، كنت أتمنى أن تسمعوا قصة ترفع مؤشر الأمل في حياتكم ولكني لست حرا كما تعتقدون، فنحن معشر الأبطال ليست لنا إرادة ولا نعبر عن أنفسنا، كل الإرادة لكم ولا نعبر إلا عما تشعرون.

بلا إرادة مني وجدتني أخطو خطوة في الفراغ نحو النهر، ها أنا قادم أيها الموت، وسأترك كاتبي وحيدا ليفسر لكم سبب انتحاري ولكن لا تلمني إن فشلت روايتك مجددا، فلا أحد سيكترث لقصة جبان.

صراحة شعرت بالبلل قبل سبعة أمتار من النهر، قبل خمسة أمتار لعنت كاتبي بما حضرني من لغته الدارجة، قبل أربعة أمتار مر أمامي شريط حياتي بالكامل، قبل ثلاثة أمتار ضحكت كثيرا، فليس لي شريط حياة، هي فقط عبارة تقال في مثل هذه الظروف. قبل متر واحد توقف عن الكتابة وهو مرتعب كأنه مقبل على الموت، يداه ترتجفان وكأنها تخيط كفنه بقلمه، لم يجد مغيثا من حوله سوى سيجارة أشعلها ليغرق في التفكير مجددا وتركني أرقب ملامح وجهي المنعكسة على مياه النهر، ملامحي تشبه ملامح كاتبي كثيرا، أو ربما أنا هو، صرت أنظر إليه أسفل النهر وكأنه الغريق ولست أنا، متر واحد يفصلني عنه، متر واحد هو كل ما تبقى له من فسحة الأمل، أمد يدي نحوه فيفعل المثل، يريد النجاة ولكن لماذا؟ لا أعرف لماذا، فواقعكم أكثر تعقيدا من الخيال بكثير، كل ما أعرفه هو أننا نحن معشر الأبطال نتحرق شوقا لنعيش يوما واحدا من أيام عامتكم البسطاء، على الأقل لكم ذوق تستطعمون به حلاوة النجاح ومرارة الفشل، هيا يا كاتبي مد يدك لي أو اسبح إلى ضفة النهر، أو مزق ما كتبت وابدأ من جديد ولا تكترث لأمري فأنا مجرد بطل، إن مت اليوم فسأحيا غدا في رواية أخرى، أما أنت إن أغرقت أملك في هذا النهر فستحيا ذليلا ميؤوسا منك وفي النهاية ستموت كافرا غير مأسوف عليك.

اترك رد