ماذا جرى في تطوان؟

بقلم: الطاهر الطويل

إذا كانت الدورة الثانية والعشرون من المهرجان الوطني للمسرح التي نظمت في مدينة تطوان من 22 إلى 29 دجنبر 2022 قد خلّفت ردود فعل مختلفة، ما بين مُستهجِن ومُستحسِن، فإن الضرورة تقتضي القيام بوقفة تقويمية لهذه التظاهرة التي يُفترض أنها بلغت مرحلة النضج، بعد سنوات طوال من التجربة في مكناس ثم في تطوان، وهي مهمة مَوْكُولَة أولاً إلى وزارة الشباب والثقافة والتواصل؛ كما أنها موكولة إلى النقاد والباحثين والفنانين والإعلاميين ممّن واكبوا المهرجان على امتداد دوراته المتعاقبة.
بدايةً، نعتبر عودة المهرجان إلى الانعقاد بعد عامين من التوقف بسبب جائحة “كورونا” مكسبا مهما جدا، إذ أتاح التعرف على مجموعة من العروض المسرحية التي أنتجت خلال الشهور الأخيرة، سواء تلك التي قدمت في إطار المسابقة الرسمية أو ضمن البرنامج الموازي.
ولكنّ تأجيل الدورة مرتين اثنتين خلال شهر دجنبر خلق إرباكا ملحوظا، فضلاً عن وجود نوع من التقصير في الإعلان عنها والدعاية لها وإعطائها ما تستحق من مواكبة إعلامية وازنة. وبالتالي، لم يكن العديد من الفنانين المسرحيين على علم بها، بمن فيهم أبناء مدينة تطوان التي تحتضن الحدث نفسه.
وإذا كان أطر الوزارة قد بذلوا جهودا قصوى محمودة، في سبيل توفير الظروف المناسبة للمهرجان، فقد بدا واضحا أن العدد القليل جدا للساهرين عليه غير كاف البتة لتنظيم تظاهرة من حجم “المهرجان الوطني للمسرح”؛ ومن ثم تستدعي الضرورة أن تفكر وزارة الثقافة في تشكيل إدارة موسعة للمهرجان، ذات هيكلة محددة، تضم ذوي الاختصاص، وتأخذ بعين الاعتبار التوجّه اللامركزي الذي تنهجه المملكة.

معضلة انتقاء العروض

على مستوى الأعمال المشاركة، يتعين وضع معايير دقيقة لانتقاء العروض المسرحية، تُراعي تمثيلية مختلف جهات البلاد، ما أمكن ذلك. فالملاحظ أن ربع عدد الأعمال المتنافسة (4 من 12 عملا) في الدورة الأخيرة تنتمي إلى مدينة الرباط فقط، واثنتين إلى مدينة الدار البيضاء، وتوزّع الباقي على خريبكة والزمامرة ومكناس والحسيمة والسمارة.
ومن المُحبَّذ أيضا أن تراعي عملية الانتقاء مبدأ التنوع المطلوب في التجارب والأساليب، فالمثير للانتباه أن جل المسرحيات التي قدمت في الدورة الثانية والعشرين تتشابه في اعتماد التقنيات والاختيارات الجمالية نفسها، وأيضا في الخطابات والثيمات المتمثلة أساسا في المرأة المضطهدة من قبل الرجل. صحيح أن العقلية الذكورية ما زالت مهيمنة في الوسط المغربي والعربي، ولكنّ حصر الصراع في هذا النطاق يلغي باقي أوجه الصراع الكبرى مع البنيات السياسية والإدارية والاقتصادية والفكرية السائدة.
إن التركيز على نوعية معينة من العروض يطرح تساؤلا عريضا حول ما إذا كان هناك توجّه مقصود من أجل فرض مسرح معين في المغرب وإلغاء باقي المسارح، واستبعاد حق الجمهور المغربي في اختيار الأعمال التي يريدها. إذا كنا نود خلق رغبة لدى المتلقي في ارتياد المسارح، فيتعين أن نقدّم له تجارب وعروضا مختلفة لأجيال متعددة، وبعد ذلك يحق له أن يختار منها ما يتلاءم وأفق انتظاره، ما دام الجمهور مختلفا وليس متجانسا.

تطوان… غائبة أم مُغيَّبة؟

على مستوى الشخصيات المكرَّمة، شيء جميل أن يحتفي المهرجان، من باب العرفان، بخمسة وجوه مسرحية بصمت حضورا متميزا في مجال التمثيل، وهم: الزوهرة نجوم، السعدية أزكون، إبراهيم خاي، جواد السايح، عبد الكبير الركاكنة.
ولكن، ألم يكن أجدر أن يكون من بينها اسم واحد على الأقل، ينتمي إلى مدينة تطوان أو غيرها من مدن الشمال؟
ما السبب في “تغييب” الكثير من مسرحيي الشمال، سواء كمكرّمين أو كضيوف أو كمساهمين في التنظيم أو كمشاركين في تقديم الكتب أو مناقشة العروض؟
إن هذا الوضع جعل العديد من الفنانين والمثقفين من أبناء تطوان يشعرون بمرارة الاستبعاد إن لم نقل الإقصاء، وصارت مدينتهم مجرد فضاء للإيواء والعرض فحسب، وبدا المهرجان معزولاً عن محيطه الاجتماعي والثقافي، فلم يَرْقَ إلى أن يشكل حدثا ضخما تعيشه المدينة ككل، مثلما يحدث في مهرجانات عريقة في تونس ومصر والأردن، دون أن نذكر بعض البلدان الغربية. وهو ما حذا بالعديد من الفاعلين المسرحيين والمجتمع المدني في تطوان إلى إصدار بيان يطالبون فيه مستنكرين بـ “رفع الحيف المسرحي” عن مدينتهم.

حفل الافتتاح… المهزلة!

أما على مستوى حفل افتتاح المهرجان الوطني للمسرح، فالظاهر أن المنظمين لم يولوه الأهمية التي يستحقها، ولم يتم إعداده إعدادا كافيا، فكان تكليف الكوميدي طاليس وزوجته الممثلة فدوى الطالب بمهمة التقديم والتنشيط مهزلة بكل المقاييس، إذ كان الرجل يطلق الكلام على عواهنه، كما أن ظهور زوجته بـ “بيجاما” بسيطة وبحذاء البيت “بانطوفا” كان مفاجأة سخيفة وغير مبررة فنيا، ففيه إهانة لمكانة المرأة (خاصة وأن زوجها ظهر بلباس رسمي أسود) وإهانة للمسرحيين والفرق المشاركة وللجمهور الحاضر.
من الضروري إعطاء حفل الافتتاح المكانة التي يستحقها، لأنه واجهة المهرجان، وذلك بتخصيص لجنة مختصة، تضع التصورات الخاصة بتنفيذه إبداعيا، شكلا ومحتوى، أي على مستوى التأثيث السينوغرافي للخشبة أو على مستوى إخراج الحفل ككل، وطريقة تقديم الفقرات ونوعية هذه الأخيرة، واستدعاء الفنانين والشخصيات إلى الخشبة… وهلم جرا.

البرنامج الثقافي

البرنامج الثقافي للمهرجان، بدوره، لم يأخذ نصيبه من الدقة والتركيز والإعداد الجيد، ذلك أن محاور ندوة “البيئة الثقافية والفنية لما بعد الجائحة: بنيات جديدة للإبداع والترويج” ظهرت فضفاضة وملتبسة، وكذلك الشأن بالنسبة لمداخلاتها التي بدا أن جلّها هُيّئ على عجل، فيما غرقت إحدى المداخلات في الذاتية والابتعاد عن جوهر الندوة وهدفها المركزي؛ مما يستدعي ـ مستقبلا ـ تكليف لجنة من المختصين من أجل اقتراح محاور الندوات ومطالبة المشاركين فيها بإعداد أوراق أكاديمية تصلح للنشر في كتاب جماعي بعد المهرجان، وتشكل مرجعا مهما لدى واضعي السياسة الثقافية وكذا لدى الباحثين المختصين.
كما يتطلب الأمر القيام بمراجعة لطريقة مناقشة العروض المسرحية، حتى تبتعد عن المجاملات والصيغ الإنشائية، وتكون بمثابة حصص نقدية مفيدة للفرق المسرحية من جهة ولعموم المهتمين من جهة ثانية. وتنطبق المسألة نفسها على تقديم الكتب الجديدة، ذلك أن الاكتفاء بحديث المؤلفين عن إصداراتهم لا يقدم إفادة مهمة للحاضرين، بل لا بد من وجود أوراق نقدية تُقارِب عوالم الكتب المسرحية.

لجنة التحكيم

نصل أخيرا إلى بيت القصيد، ألا وهو لجنة التحكيم التي أثارت نتائجها ردود فعل مختلفة، سواء داخل مسرح “إسبانيول” الذي شهد حفل الاختتام، أو في شبكات التواصل الاجتماعي الافتراضية؛ إذ لم يسبق في تاريخ المهرجان ـ على حد علمنا ـ أن ارتفعت أصوات الاحتجاج قوية داخل القاعة بمجرد الإعلان عن المسرحية الفائزة بالجائزة الكبرى، مثلما حصل خلال الدورة الثانية والعشرين، حيث لم يستسغ الكثيرون منح الجائزة لفرقة “أرتيميس” عن مسرحية “غيثة” التي أخرجها الفنان إدريس الروخ، وحرمان أعمال أخرى كانت ـ في نظرهم ـ جديرة بالتتويج.
صحيح أن نتائج لجان التحكيم تكون أحيانا مفاجئة للمتتبعين، وصحيح أنها تخضع لأمزجة وأذواق أعضاء اللجنة، وصحيح كذلك أن التقييم الجمالي والنقدي يختلف بحسب المرجعيات الفنية، ولكنّ المؤكد أن تشكيلة لجنة تحكيم الدورة الثانية والعشرين للمهرجان الوطني للمسرح فيها خلل كبير. فهل خلت الساحة الثقافية المغربية من أسماء وازنة تصلح للقيام بهذه المهمة الجليلة بالجدارة المطلوبة؟ على العكس من ذلك، لدينا باحثون ونقاد وفنانون لا يختلف أحد في مصداقيتهم وجديتهم.


بيد أن ارتباك اللحظة الأخيرة أدى إلى “تجميع” أعضاء لجنة التحكيم بشكل عشوائي (برئاسة الكاتب والمخرج أحمد أمل وعضوية المخرجة فاطمة الجبيع ومهندسة الديكور مريم أوعلا والباحث محمد صلو والمخرج والممثل رشيد دواني والمخرج المسرحي أيوب العياسي والمخرج السينمائي عز العرب العلوي) ودليل ذلك أن كتيّب المهرجان خَلاَ من ذكر أسمائهم، كما أغفل ذكر أسماء لجنة الانتقاء أو تغافل عنها.
ومما زاد الطين بلة أن الأستاذة مريم أوعلا أصدرت بيانا نشرته على صفحتها “الفيسبوكية”، تعلن فيه تبرؤها من نتائج لجنة التحكيم، وتكشف عن معطيات خطيرة تتلخص في محاولة التأثير على تقييمها للأعمال من قبل سيدة أخرى عضو في اللجنة وتعرضها للترهيب غير المباشر عبر اتهامي كلما دافعت عن الجودة في عمل من الأعمال، كما كشفت عن وجود احتكام إلى المعطيات الشخصية حول حاملي المشاريع والعاملين فيها وممتلكاتهم وممارساتهم وعدد الجوائز التي سبق لهم الفوز بها وليس إلى جودة أعمالهم أو مهنيتهم في ضرب سافر لأخلاقيات التحكيم والتباري؛ فضلا عن إقصاء فرقة من الفرق من التقييم ورفض البت في ترشيحها بسبب تعبير المخرج عن سخطه على غياب التجهيزات التقنية خلال العرض، في إشارة إلى محمد الحر مخرج مسرحية “حدائق الأسرار”.
والخلاصة أن دورة 2022 أخطأت الموعد وخالفت التوقعات. نقول ذلك من باب الغيرة الصادقة على هذه التظاهرة المسرحية، ورغبتنا في أن تتطور نحو الأفضل، وتكون في مستوى الطموحات المنشودة.

اترك رد